إن كفار قريش في الجاهلية كان موقفهم مع بيت الله الحرام والبلد الأمين مما يضرب به المثل في التعظيم والاحترام مع ما كانوا عليه من الضلال المبين، والانحراف الواضح في عبودية الله عز وجل، وفي العقيدة والتوحيد؛ فقد نقلت عنهم كتب السير والتواريخ صورا ومواقف تبين أنهم كانوا على قدر كبير من التعظيم والإجلال تجاههما، ومن تلك الصور:
- إن امرأة من قريش ذهبت تُجمِّر الكعبة فطارت من مِجمرتها شرارة فاحترقت كسوتها – وكانت الكسوة عليها ركامًا بعضها فوق بعض- فلما احترقت الكعبة توهّنت جُدرانها من كل جانب وتصدّعت، وكانت الخرف الأربعة عليهم مظلّة، والسيول متواترة، ولمكة سيولٌ عوارم، فجاء سيل على تلك الحالة فدخل الكعبة وصدّع جدرانها، ويُقال كان السيل ينـزل من أعلى الكعبة حتى يدخلها، ففزعت من ذلك قريش فزَعًا شديدًا، وخافوا أن تنهدم، وهابوا هدمها، وخشوا إن مسُّوها أن ينـزل عليهم العذاب.فبينما هم على ذلك ينتظرون ويتشاورون إذ أقبلت سفينة من الروم حتى إذا كان بالشعيبة – وهي يومئذٍ ساحل مكة- انكسرت فسمعت بها قريش، فركب الوليد بن المغيرة في نفرٍ من قريش فاشتروا خشبها، وأعدّوه لسقف الكعبة، وأذنوا لأهلها أن يدخلوا مكة فيبيعون ما معهم من متاعهم على ألاّ يعشروهم (عشر المال:أخذ عشره ضريبة)، وكانوا يعشرون من دخلها من تجار الروم كما كانت الروم تعشر من دخل منهم بلادها، فكان في السفينة رجلٌ رومي نجار يسمى باقوم – ويُقال ورأسهم باقوم، وكان بانيًا- فكلموه بأن يقدم معهم ويبني لهم الكعبة بُنيان الشام.كانت قريش تنقل الحجارة بأنفسها تبرّرًا وتبركًا بالكعبة، والنبي – صلى الله عليه وسلم- كان هو – أيضا- ينقلها معهم على رقبته.ولما اجتمع لهم ما يريدون من الحجارة والخش، وما يحتاجون إليه غدَوا على هدمها، فخرجت الحية التي كانت في بطنها تحرسها سوداء الظهر بيضاء البطن رأسها مثل رأس الجدي – تمنعهم كلما أرادوا هدمها، فلما رأوا ذلك اعتزلوا عند مقام إبراهيم، وهو يومئذٍ في مكانه الذي فيه اليوم، فقال لهم الوليد بن المغيرة، ويُقال: أبو أحيحة سعيد بن العاص: يا قوم ألستم تريدون بهدمها الإصلاح؟ قالوا: بلى. قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، ولكن لا تُدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا من طيِّب أموالكم، ولا تدخلوا فيه مالاً من ربا، ولا مالاً من ميسر، ولا مهر بغيِّ، وجنِّبوه الخبيث من أموالكم، وما لم تُقاطعوا رحمًا، ولا تظلموا فيه أحدًا من الناس، فإن الله لا يقبل إلاّ طيبًا؛ ففعلوا، ثم وقفوا عند المقام يدعون ربهم ويقولون: اللهم إن كان لك في هدمها رضًا فأتمه، واشغل عنا هذا الثعبان، فأقبل طائر من جوّ السماء كهيئة العقاب ظهره أسود وبطنه أبيض، ورجلاه صفراوان – والحية على جدار البيت فاغرة فاها- فأخذ برأسها ثم طار بها حتى أدخلها أجياد الصغير، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله سبحانه وتعالى قد رضي عملكم، وقبل نفقتكم فاهدموه.ثم إن قريشًا هابوا هدمها وفَرِقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أتريدون الإصلاح أم تريدون الإساءة؟ فقالوا: بل نريد الإصلاح، قال: فإن الله لا يُهلك المصلح، فقالوا: فمن ذا الذي يعلوها فيبدأ بهدمها؟ فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها؛ أنا شيخ كبير، فإن أصابني أمرٌ كان قد دنا أجَلي، وإن كان غير ذلك فلم يرزَأْني، فعلا البيت وفي يده عتلة – وقيل: مِعوَل، ويُقال: فأس- يهدم بها، فتزعزع من تحت رجله حجر، فقال: الله لا تُرَع إنما أردنا الإصلاح – أو إنا لا نريد إلاّ الإصلاح، وجعل يهدمها حجرًا حجرًا بالعتلة، فهدم يومه ذلك من ناحية الركنين، فقالت قريش: نخاف أن ينـزل به العذاب إذا أمسى، ويُقال: فتربّص الناس به تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدِم شيئًا ورددناه كما كان، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا؛ فأصبح الوليد غاديًا على عمله، فلما رأته قريش ولم يأتهم ما يخافون من العذاب فهدمت قريش معه حتى بلغ الأساس الذي رفع عليه إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت(1).
- كان أهل الجاهلية يفتحون الكعبة يوم الاثنين والخميس، وكان الحُجاب يجلسون عند الباب، فيرتقي الرجل فإذا كانوا لا يريدون دخوله يُدفع ويُطرح، فربما عطب، وكانوا لا يدخلون الكعبة بحذاء – يعظمون ذلك- ويضعون نعالهم تحت الدرجة، وأول من خلع الخفّ والنعل فلم يدخل بهما الوليد بن المغيرة؛ إعظامًا لها، فجرى ذلك سُنة(2).
كان حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع من قنصه في عهد الجاهلية لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة تعظيما له (3) - ومن تعظيمهم أنهم كانوا يحرمون أن يسكنوا مكة، ويعظمون أن يبنوا بها بيتًا، وكانوا يكونون بها نهارًا فإذا جاء الليل خرجوا إلى الحل، ولا يستحلّون الجناية بمكة، فأذن لهم قصي أن يبنوا في الحرم، وقال لهم: إنكم إن سكنتم حول البيت هابتكم العرب ولم تستحل قتالكم. فقالوا: رأينا تبعٌ لرأيك وأنت سيدنا؛ فابتدأ وبنى دار الندوة، وهي أول دار بُنيت بمكة – والندوة في اللغة الاجتماع- فكانوا لا يعقدون أمرًا من الأمور إلاّ فيها، ولا يدخلها من غير ولد قصي إلاّ من جاوز الأربعين، فسمي قصي مجمعًا لجمعه لقومه.(4)
- ومن تعظيمهم للكعبة المشرفة كما ذكره الإمام الأزرقي: أن الناس كانوا يبنون بيوتهم مدورة تعظيمًا للكعبة، فأول من بنى بيتًا مربعا حميد بن زهير، فقالت قريش: ربّع حميد بيتا إما حياة وإما موتا.(5)