خصيصة الطهر لمكة والبيت الحرام
مفهوم الطهر لبيت الله الحرام
أمر الله –سبحانه- خليله إبراهيم -عليه السلام- ببناء أول بيت على وجه الأرض ليكون مكانا لعبادته -سبحانه وتعالى-، وليكون معلما للتوحيد ورمزا له خالدا على مدى العصور، فانقاد الخليل لأمر ربه وأتم بناء البيت الحرام بمعاونة ابنه إسماعيل الذي كان بارا به، ومطيعا له، وتحمل عبأ كبيرا عنه في عملية البناء، وفي هذا يقول الله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(البقرة:27).
وبعد تشييده أركانه، وانتهائه من وضع لبناته جاء أمر إلهي آخر، وهو الأمر بتطهير هذا البيت المعظم من الشرك والأنجاس وغيرهما مما يكون وجوده في مثل هذا المكان المقدس أمرا غير لائق شرعا وحسا، فقال –سبحانه-:( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)؛ وذلك لأن هذا البيت يكون قبلة لأهل الأرض قاطبة، ومكانا يأتي إليه الناس من كل أطراف الدنيا ونواحيها المختلفة لأداء شعائر عظيمة في موسم الحج وغيره، ولا شك أن مكانا مثل هذا، وبلدا هذه صفته لا بد أن يكون طاهرا مطهرا من كل الأدران والخبائث.
فامتثل الخليل -عليه السلام- لأمر ربه، وقام بالمهمة خير قيام، وطهر البيت من أدران الشرك وأنجاس الوثنية، ودعا إلى الدين الحنيف الذي لا يرضى إلا بالتوحيد الخالص لله الواحد القهار، ومن حينه أصبح بيت الله رمزا للطهر، ومعلما للهداية، ومقصدا للعباد من كل فج عميق، كما قال –تعالى- آمرا خليله إبراهيم -عليه السلام-:(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)(الحج:27)، فيقدم الناس عليه بفرح وشوق، ويتشرفون بالصلاة على ساحته، ويستمتعون فيه بأداء شعائرهم، فلا يصلح فيه بتاتا كل ما يكون منافيا للطهارة والقداسة من عبادة الأوثان، وطاعة الشيطان، ومعصية الرحمن؛ بل لا بد من الالتزام بفعل كل ما يكون ملائما لطهر المكان من العبادات والطاعات، والاجتناب من كل ما يكون خادشا للقداسة من الذنوب والعصيان.
المقصود بطهارة البيت التي أُمر بها الخليل
لقد اختلف أهل التفسير في الطهارة التي أمر بها الخليل -عليه السلام- للبيت الحرام فقيل إن المراد بها: الطهارة من الأوثان، وقيل من الآفات والريب، وقيل من الكفار، وقيل من النجاسات وطواف الجنب والحائض وكل خبيث؛ والراجح -كما قال أهل التحقيق من المفسرين- أنها عامة تشمل كل طهارة حسية ومعنوية؛ فتدخل فيها الأمور التالية:
1- تطهير البيت بإزالة كل ما ينافي التوحيد ويضاده من الأوثان والأصنام.
2- تطهيره من كل ما يؤثر في مكان العبادة الطاهر من الأنجاس والقاذورات.
3- تطهيره من كل عمل يضاد التوحيد والعبادة؛ فيمنع الناس عنده من الشرك والبدع والفواحش، والظلم وبث الخصال الذميمة.
4- تطهيره بالتطييب وإزالة الروائح الكريهة المؤذية للمصلين فيه والطائفين.
نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم- يطهر البيت الحرام بعد أن دنسّه الكفار
لم يبق البيت الحرام على طهره الذي كان في زمن الخليل وابنه إسماعيل -عليهما السلام-، بل دنسّه الكفار بعد عهدهما، وأدخلوا فيه أصناما وأوثانا يعبدون فيه من دون الله -عز وجل-، ويرتكبون فيه ألوانا كثيرة من المنكرات والأفعال الشنيعة التي دنسّوا بها طهر البيت الحرام وقداسته، فكانوا على تلك الحال زمنا طويلا حتى بعث الله من مكة- شرفها الله- ومن أهلها ومن ذرية الخليل إبراهيم -عليه السلام- رسولا وجعله خاتم النّبيين، وكلّفه بتجديد الحنيفية وإعادة الطهر حسًا ومعنىً للبيت الحرام والبلد المقدس؛ ألا وهو رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد أعاد التوحيد، وأقام العبادة، وطهّر ساحة الكعبة من الأنجاس الحسية والمعنوية، وكان ذلك تحقيقَ دعوة أبيه إبراهيم التي ذكرها الله في كتابه حاكيا عن الخليل -عليه السلام-:(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ)(البقرة:127).
وهذا الطهر الذي تحقق للبيت الحرام من الأوثان والأصنام على يد رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- سوف يبقى ما بقيت الدنيا؛ فلن تُدنّس ساحة الكعبة بالأنصاب والأزلام والأصنام مرة أخرى، ولن يسلط الكفار عليها أبدًا، ولن يُضطر أهل البلد الحرام إلى الهجرة منه بسبب طغيان الكفر وأهله عليه؛ كل ذلك جاء على لسان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فعن الحارث بن مالك الليثي -رضي الله عنه- أنه قال: سمعتُ النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- يوم فتح مكة يقول كما في سنن الترمذي وغيرها:(لا تُغزَى هذه –أي مكة- بعدَ اليومِ إلى يومِ القيامَة)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنّ النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال يوم الفتح كما في الصحيحين:(لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا)، وعن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال:( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)؛ فغدا هذا الجانب من الطهر في مكة أمرا قدريا – وهو عدم اجتماع أهل هذا البلد على الإشراك بالله عز وجل، وتحول مكة إلى بلد للكفر والشرك بالله عز وجل-؛ وأما الأمور الأخرى للطهر في البيت الحرام بقي الأمر بها شرعيًا؛ فالناس مكلفون بتحقيقها، قيامهم بها عنوان تعظيمهم لله وللشعائر وللبلد الحرام(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(الحج:23).
نماذج من اهتمام السلف بطهارة البيت الحرام والبلد الأمين
• تقول عائشة -رضي الله عنها-:طيّبوا البيت؛ فإنّ ذلك من تطهيره، وقالت –أيضًا-: لأن أطيّب الكعبةَ أحبّ إليّ من أن أُهديَ لها ذهبًا وفضة.
• كان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- يجمر الكعبةَ كلَّ يوم برطل من مجمر، ويجمر الكعبةَ كلَّ جمعة برطلين من مجمر.
• وكان عمر -رضي الله عنه- ينزع كسوة الكعبة في كل سنة، ويقسمها في الحجاج، ويكسوها جديدة.
• كان معاوية -رضي الله عنه- يرسل للكعبة بالطيب والمجمر والخلوق في كل عام، وأخدم الكعبة عبيدًا بعث بهم إليها، وتبعه الولاة في ذلك، وأجرى الزيت والقناديل من بيت المال للمسجد الحرام.
• كان أمير مكة الشريف حسن بن عجلان بن رميثة الحسني يأمر بوّابي المسجد الحرام بملازمة أبوابه وتنظيف الطرقات من الأوساخ والقمائم، ونقل الكدَى التي كانت بسوق الليل والمعلاة، وأن لا يُحمل السلاح بمكة، وإخراج بنات الخطا والمخنثين وغيرهم من أهل الفساد بمكة.
• أول من فرق بين الرجال والنساء في جلوسهم في المسجد الحرام: علي بن الحسين الهاشمي، أمر بحبال فربطت بين الأساطين التي تقعد عندها النساء، فكنّ يقعدن دون الحبال إذا جلسن في المسجد، والرجال من وراء الحبال.
• في سنة تسع وخمسين ومِائة أمر المهدي بنفي كل من بمكة من المغنين، ومنع قينتها من الغناء، وأخرج كل من فيها من المتشبهات من النساء بالرجال، والرجال المتشبهين بالنساء، ومنع لعب الشطرنج وغيره من الأمور التي تجر إلى اللهو والطرب، وطهرها من كثير من المباحات الملهية عن الصلوات، والشاغلة عن اغتنام القرب، وألزم حجبة الكعبة بإجلالها وتوقيرها وتنزيهها وتطييبها للزائرين وتجميرها.
طهارة البيت الحرام شاملة لمكة كلها
إنّ الطهر الذي ذكرت معالمه للبيت الحرام فإن مكة وأرضها المقدسة هي أحق ما يشمله هذا الطهر بعد البيت العتيق؛ فالحرم حريم البيت، ومكة حرم الإسلام.
وإن ما سنه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في طهر المكان والأبدان واللباس والدور والمرافق العامة وغيرها؛ فمكة أحق ما يطبق فيها هذا وعلى أكمل وجه، كيف لا؛ وهي بلد الطهر، ومنزل وفد الرحمن وزوار البيت الحرام، يقول ابن عاشور في تفسيره عند قوله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ): فيه إشارة إلى أنّ من إكرام الزائر تنظيفَ المنزل، وأن ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان.
وأهل مكة هم أولى من يقوم بهذا التنظيف؛ لأن بلدهم مكان لنزول ضيوف الرحمن ووفده الكرام من كل بلاد الدنيا.