لقد أحاط الله عز وجل البيت الحرام بحرمٍ آمنٍ محفوظٍ بحفظه؛ كي يعيش أهله في أمنٍ وأمان، قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57]، وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3].
إن لهذا الحرم حدودًا تحيط بمكة المكرمة من جميع الجهات، وعلى هذه الحدود علامات أو أنصاب معلومة المواضع؛ منذ زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام موجودة حتى يومنا هذا، وستبقى -بإذن الله تعالى- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا مصداق لما ورد في الآيات السابقة من حفظ الله تعالى للحرم، حتى إن عبدالمطلب قال كلمته المشهورة عندما غزا أبرهة الحبشي مكة المكرمة في عام الفيل "إن للبيت ربًا يحميه"، فلقد تحطّمت قوة أبرهة قبل حدود الحرم. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 1-5].
الحَدُّ: هو الفاصل بين الشيئين؛ لئلا يختلط أحدهما على الآخر، وجمعه حدود، ومنه حدود الحرم التي تمثّل سياجًا تفصله عن منطقة الحِلّ.
فالمقصود بحرم مكة: ما أحاط بها من جوانبها، جعل الله تعالى حُكْمَهُ حُكْم مكة في الحُرْمَة؛ تشريفًا لها.
واختُلف في سبب تسمية مكة حَرمًا: فقيل: سُمّيت حرمًا؛ لأنه يحرم انتهاكها بالصيد ونحوه، وقيل: إن آدم عليه السلام لما أُهبط إلى الأرض خاف على نفسه من الشيطان؛ فبعث الله عز وجل ملائكةً تحرسه، فوقفوا في مواضع أنصاب الحرم، فصار ما بينه وبين مواقفهم حرمًا، وقيل: إن الحَجر الأسود لمّا وضعه الخليلُ في الكعبة المشرّفة حين بناها؛ أضاء الحَجر يمينًا وشمالاً وشرقًا وغربًا، فحرّم الله الحرم من حيث انتهى نور الحَجر الأسود.
وأما أعلام الحرم: فهي تلك العلامات البارزة التي وُضعت لتحديد أرض الحرم وفصلها عن الحل من كل جهة، فما كان داخل هذه العلامات فمن الحرم، وما كان خارجها فليس من الحرم، بل من الحلّ.
فمكة -شرّفها الله- لها حرمٌ وحدودٌ تُحيط بها من جميع جوانبها، ولهذه الحدود علامات مبنية ما زالت موجودة إلى اليوم، تُجدّد في كل عصرٍ عند حدوث تلفٍ فيها، وهي علامات بعضها حديثة بالأسمنت المسلّح والرخام الممتاز، والبعض منها قديم مبني بالحجر.
تقع منطقة الحرم المكي الشريف في الإقليم الغربي من المملكة العربية السعودية في منخفض منطقة تهامة الحجاز ما بين خطّي طول "47 "37 ْ 39 و"55 "58 ْ 39 شرقًا، ودرجتي عرض "46 "18 ْ 21 و"58 "31 ْ 21 شمالاً.
وهي بهذا الموقع تحتلّ قلب العالم الإسلامي، بل إنها تحتلّ مركزًا وسطًا على سطح الكرة الأرضية.
وإذا دقّقنا النظر على خريطة العالم فإن منطقة الحرم المكي الشريف تقع في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، ويكاد خط طول مكة المكرمة (الصفر العالمي) يقسم العالم إلى قسمين: شرق مكة المكرمة، وغرب مكة المكرمة. وهذا تأكيد لوسطية مكة المكرمة في العالم، بل هي قلب العالم، وقد سماها رب العزة والجلال بأم القرى، فهي بحق المدينة الأم المهيمنة والمسيطرة على أفئدة المؤمنين بالله تعالى من المسلمين في جميع العالم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7].
إن موقع منطقة الحرم المكّي الشريف في الجزء الغربي من المملكة العربية السعودية يضعها في نطاق منطقة تهامة، وهي منطقة منخفضة تقع إلى الغرب من حافة جبال السروات. ولهذا الموقع الجغرافي ميزة خاصة، لأن منطقة تهامة معروفة بصيفها الحار وشتائها الدافئ وندرة أمطارها، فهي مدارية صحراوية جافة. ثم إن منطقة الحرم المكي الشريف -التي تقع ضمن منخفض تهامة- أرضها صحراويّة جبليّة وعرة وضيّقة وغير صالحة للزراعة.
وهذا يعني أن هذه البقعة من الأرض التي اختارها الله سبحانه وتعالى على سائر البقاع لكي تكون مقرًا لبيته العظيم هي مركز للعبادة، فليس فيها من مغريات الدنيا شيء، فلا أنهار جارية، ولا أمطار غزيرة، ولا غابات كثيفة، ولا موارد طبيعية، ولا مناظر خلابة؛ ما عدا الكعبة المشرفة والمسجد الحرام، قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37].
إن موضع منطقة الحرم المكي الشريف ومن ذلك الكعبة المشرفة يعدّ فريدًا من نوعه؛ لكون البيت الحرام في موضع في وسط وادي إبراهيم، ولا شك أن اختيار هذا الموضع مردّه إلى مشيئة الله تعالى وإرادته سبحانه وتعالى، ولحكمةٍ ارتضاها لا يعلمها إلا هو، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].
إن هذا الأمر يحتاج إلى تدبّر ووقفة، فقد اختار الله سبحانه وتعالى بيته في هذا الموضع وفي وسط هذا الوادي في وسط مكة المكرمة، وجعل لمكة حرمًا آمنًا، قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67].
ومما يزيد في عظم هذه المعجزة الإلهية هو ما ورد في القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]. وكما هو معروف فإن منطقة الحرم المكي الشريف منطقة غير زراعية؛ بسبب عدم توافر الماء وجفاف المنطقة وشدة حرارتها؛ كما تقدم ذكره.
إن منطقة الحرم المكي الشريف محفوظة بحفظ الله تعالى لها، وما هذه الجبال الرواسي المرتفعة حولها وتحفّ بها من جميع جهاتها إلا دروع أو هي سياج أمن وأمان لها بإذن الله تعالى، وكذلك الجبال الموجودة بداخلها هي أيضًا رواسٍ شامخات، قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]، وفي آية أخرى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} [المرسلات: 27].
لقد شكّلت العناية الإلهية طبيعة منطقة الحرم المكي الشريف فجعلتها متميزةً عن غيرها من المناطق التي حولها.
إن الشكل التضاريسي العام لمنطقة الحرم المكي الشريف مرتبط بطبيعة تكوينها الجيولوجية؛ التي هي أيضًا مرتبطة بعوامل نشأتها الرئيسة عبر العصور الجيولوجية المختلفة (عوامل تحت أرضية أو تكتونية وعوامل أخرى سطحية - عوامل تعرية) التي أدت إلى تشكيل مظهرها العام أو الوضع الطبوغرافي (التضاريسي) الحالي لمنطقة الحرم المكي الشريف.
إن الوضع التضاريسي العام الناتج عن التكوينات الجيولوجية لمنطقة الحرم المكي الشريف جعله الله سبحانه وتعالى مختلفًا عما حوله من ناحيتين:
الأولى منهما: أن منطقة الحرم المكي الشريف تتكون من أحواض تتخللها مجموعة من الجبال؛ منها المتصل ومنها المنفصل.
والأخرى: وجود مجموعة من السلاسل الجبلية المرتفعة التي تحيط بمنطقة الحرم من جميع الجهات في شكل هندسي يشبه المستطيل الذي يمتد ضلعه الشمالي من الشرق نحو الغرب، وضلعه الغربي من الشمال إلى الجنوب، وضلعه الجنوبي من الغرب إلى الشرق، وأخيرًا ضلعه الشرقي الذي يمتد من الجنوب الشرقي نحو الشمال الشرقي من منطقة الحرم.
وهذه المرتفعات تمثّل الحدود الطبيعية -أي الحدود الجغرافية- التي عليها مسار أعلام الحرم المكي الشريف ومواضعها.
هذه السلاسل الجبلية التي تحفّ بمنطقة الحرم المكي الشريف تمثّل الحدود الفاصلة بينه وبين المناطق الخارجية (أي مناطق الحل)، وتقع عليها أعلام الحرم المكي الشريف، وهي تظهر على الطبيعة وعلى المصورات الفضائية على شكل مستطيل تقع الكعبة المشرفة في قلبه.
إن طبيعة منطقة الحرم المكّي الشريف جبليّة وعرة، لاسيما سلسلة المرتفعات التي تقع عليها مواضع أعلام الحرم في جهاته الأربع. وتحيط هذه المرتفعات بمنطقة الحرم المكي الشريف من الشمال والغرب والجنوب والشرق.
إن مما يميّز منطقة الحرم أنه تتخللها مجموعة كثيرة من الجبال والشعاب والأودية، الأمر الذي يزيد من صعوبة الحركة؛ لولا توافر الطرق المعبّدة والحديثة.
إن لمنطقة الحرم المكّي الشريف مداخل كثيرة هي في أغلبها مناطق منخفضة يسلكها الناس منذ القِدَم، وتعدّ في معظمها مخارج لمياه الأمطار من منطقة الحرم إلى خارجها إلى مناطق الحل. إن هذه المداخل تنقسم إلى قسمين، تمثل الثنايا والريعان القسم الأول منها، وتمثل بعض المنخفضات من بطون الأودية القسم الآخر.
إن هذه المواضع من الثنايا والريعان والمنخفضات تمثل مسالك عبور للقادمين إلى البلد الحرام والخارجين منه، وقد أمكن من خلالها الوصول إلى المناطق المرتفعة.
ومن هذه المداخل الرئيسة ستة معروفة منذ القدم، هي:
م |
المدخل |
موقعه، والمسافة بينه وبين الكعبة المشرفة |
1 |
مدخل مكة-المدينة |
يقع في الحدّ الشمالي في منطقة التنعيم (عند مسجد عائشة رضي الله عنها)، ويبعد عن الكعبة المشرفة مسافة 5,673كم. |
2 |
مدخل مكة على طريق اليمن القديم |
يقع في الحدّ الجنوبي في منطقة العكيشية (أضاة لِبْن)، ويبعد عن الكعبة المشرفة مسافة 11,784كم. |
3 |
مدخل مكة على طريق جدة القديم |
يقع في الحدّ الغربي في منطقة الشميسي (الأعشاش)، ويبعد عن الكعبة المشرفة مسافة 18,045كم. |
4 |
مدخل مكة - الطائف |
يقع في الحدّ الشرقي في منطقة عرفات (بطن نَمِرة)، ويبعد عن الكعبة المشرفة مسافة 15,199كم. |
5 |
مدخل مكة - الطائف (السيل) |
يقع في الحدّ الشرقي في منطقة الشرائع (ثنية خَلّ)، ويبعد عن الكعبة المشرفة مسافة 13,575كم. |
6 |
مدخل مكة - جعرانة |
يقع في الحدّ الشمالي الشرقي على طريق ثنية المستوفرة، ويبعد عن الكعبة المشرفة مسافة 16,438كم. |
إضافة إلى ما تقدّم؛ وفي وقتنا الحاضر تضاعف عدد المداخل إلى مكة المكرمة، حيث فُتحت الطرق الرئيسة على طريق مكة جدة السريع، والحسينية، والطائف (الكُر)، وغيرها كثير.
وإنه مما يسترعي الانتباه أن كل مناطق الثنايا والريعان وكذلك المنخفضات تعدّ أماكن صالحة بصفتها مسالك عبور من البلد الحرام وإليه في ضوء التطور العمراني الذي تشهده مكة المكرمة "زادها الله تعالى تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا".
ويضاف إلى وعورة المرتفعات الجبلية على حدود الحرم خاصية مناخ منطقة الحرم التي تتميز بأن الفصل الحار فيها يمتدّ مدّةً طويلة تصل إلى عدّة شهور خلال السنة؛ مما يعني ارتفاعًا في درجات الحرارة التي تتراوح بين 40 و47 درجة مئوية خلال تلك الأشهر الحارّة خلال النهار، في حين يكون فصل الشتاء قصيرًا جدًا؛ وهو دافئ عمومًا.
وهناك صفة عامة أخرى لمنطقة الحرم المكي الشريف؛ وهي انتشار ظاهرة العمران على سفوح الجبال، ليس داخل منطقة الحرم فقط؛ بل حتى خارج حدود الحرم في بعض الأماكن.
مما يميّز منطقة الحرم المكّي الشريف أنها منطقة تتخللها بعض الأودية والروافد الجافة التي تشكّل أحواضًا لتصريف مياه الأمطار إلى خارج منطقة الحرم، كما توجد فيها بعض الجبال المرتفعة التي هي نتوءات أو بروزات صخرية عالية. كذلك تحيط بها سلاسل جبلية من جميع الجهات التي تفصلها عما حولها من المناطق خارج منطقة الحرم، وتنقسم مياه أمطارها إلى قسمين: فمنها ما يسيل نحو الحرم، ومنها ما يسيل إلى خارجه أو في الاتجاه المعاكس.
إن لمنطقة الحرم المكي الشريف ميلاً عامًا من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي، ويعدّ وادي إبراهيم من أهم الأودية التي تجري عليها في وسطها باتجاهٍ عام من الشمال الشرقي نحو الغرب، فالجنوب ثم الجنوب الغربي، ويمرّ بالكعبة المشرفة داخل المسجد الحرام الذي يقع في وسط الوادي عند زاوية انحرافه نحو الجنوب.
إن هذا الوضع المكاني الطبيعي المتنوع في تضاريس منطقة الحرم المكي الشريف يرجع إلى عوامل تكوينها الجيولوجي. وتبعًا لذلك فإن التركيب التضاريسي -أو المظهر الطبيعي العام- لمنطقة الحرم المكي الشريف معقد ومتنوع.
إن تضاريس منطقة الحرم المكي الشريف ترجع في تكوينها إلى عصور جيولوجية قديمة (عصور ما قبل الكامبري)، وهي ترتكز على قاعدة صخرية قديمة صلبة أصابتها حركات تحت أرضية (تُعرف بالحركات التكتونية أو التحتية)، وعوامل أخرى سطحية (تُعرف بعوامل التعرية) أدت جميعها إلى تشكيل جبالها وأوديتها.
إن معظم الجبال في منطقة الحرم المكي الشريف مكونة من صخور نارية في أغلبها، ومتحوّلة، وقليل منها الرسوبية.
ومما يلفت النظر فيما يخص التركيب التضاريسي لمنطقة الحرم المكي الشريف أنها كثيرة الانكسارات والفواصل والشقوق، وهذه من جهتها ساعدت على تشكيل الوضع الطبوغرافي العام الحالي لمنطقة الحرم المكي الشريف المتمثلة في الجبال المرتفعة وأحواض الأودية.
وعلى العموم يمكن تقسيم المظهر الطبيعي لمنطقة الحرم المكي الشريف إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول:
يشمل المرتفعات الجبلية الواقعة داخل منطقة الحرم، وكذلك المرتفعات الجبلية الفاصلة بين منطقة الحرم ومناطق الحل.
أ- المرتفعات الجبلية الواقعة داخل منطقة الحرم:
تقع ضمن منطقة الحرم المكي الشريف مجموعة من الجبال المرتفعة الداخلية؛ التي أخذت مواضعها داخل المنطقة، وهذه الجبال منها المتصل ومنها المنفصل أو المتباعد بعضها عن بعض. وهي عمومًا متناثرة داخل منطقة الحرم، وأهم هذه الجبال: جبل ثَبير، وجبل النور، وجبال خندمة، وجبل ثور، وجبل النسوة، وجبل قُعيقعان، وجبل أبي قُبيس، وجبل أبي لهب، وجبل الكعبة، وجبل أجياد، وسلسلة جبال الزنج، وجبل الأحدب، وغيرها من الجبال التي تقع ضمن منطقة الحرم المكي الشريف.
وهذه الجبال لا علاقة لها بحدود الحرم أو بمواضع الأعلام.
ب- المرتفعات الجبلية الواقعة بين منطقة الحرم ومناطق الحل:
إن منطقة الحرم المكي الشريف محصورة بين حدود الحرم من جهاته الأربع بين مجموعة سلسلة المرتفعات الجبلية التي تفصل منطقة الحرم عن المناطق الأخرى التي بعدها، وهذه المنطقة مرتفعة عما حولها (يُراوح متوسط ارتفاعها بين 150 و400 متر فوق سطح البحر)، ويوجد على قممها خطوط تقسيم مياه الأمطار؛ التي يقع عليها مسار حدود الحرم، وتقع عليها مواضع أعلام الحرم المكي الشريف.
ويمكن تقسيم هذه المرتفعات إلى أربعة أقسام حسب أضلاع حدود الحرم المكي الشريف، وذلك على النحو الآتي:
1- سلسلة المرتفعات الجبلية للحد الشمالي:
وهذه تشمل مسميات الجبال الممتدة من الشمال الشرقي لمنطقة الحرم باتجاه الغرب، وأهم هذه الجبال:
جبل السطيحة، جبل الدهماء، جبل النقوى السفلى، جبل أم سدرة، جبل شبيرم، جبل أم المعين، جبل الحمراء (بغبغة)، جبل الحِثْنة، جبل فُراع فَخّ، جبل فُراع القَعُود، جبل حجلى، جبل الوقير، جبل صائف، جبل نعمان، جبل نعيم، مرتفع منطقة البحيرات، جبل الجفر (الواتد)، جبل رحى، جبل الرضيع (الرضيعة)، جبل أم القَزاز، جبل أم الشبرم، جبل أم المَرْخ، جبل أبو بقر (أبو دِلِي)، جبل أبو زَوَالة (الناصرية).
2- سلسلة المرتفعات الجبلية للحد الغربي:
وهي تشمل مجموعة من المسميات تبدأ من الشمال باتجاه الجنوب، وأولها جبل أبيض صغير يقع إلى الشمال الشرقي من جبل أظلم الشمالي، ثم جبل أظلم الشمالي، يليه جبل أظلم الجنوبي، ثم جبل الموشَّح، وأخيرًا جبيلات أو مرتفعات الجذبان (الحشفان).
3- سلسلة المرتفعات الجبلية للحد الجنوبي:
وهي تشمل مسميات تبدأ من الغرب باتجاه الشرق بجبيلات الجذبان إلى جبل صغير يعرف بحَشِيْف الكلاب، جبل الدومة الحمراء، جبل بشيمات (البشائم)، جبل غراب، جبل لُبينات، جبل كبش، جبيلات وكثبان، جبل الراقد، جبال الكريزات، جبل جِرْوَة، جبل أم طَبَق، جبل المقيطع، جبل المريخيات (ذو مراخ)، جبل أم العَرْفَج، جبيلات النازلة، جبل الحَلْق، جبل الخرابة (أبو خرابة)، جبل قرن العميرية (العابدية).
4- سلسلة المرتفعات الجبلية للحد الشرقي:
وهي تتكون من مسميات جبلية تبدأ من الجنوب الشرقي باتجاه الشمال الشرقي، حيث تبدأ بجبل قرن العميرية، ثم جبل نمرة، أرض نمرة، جبل دَقْم الخَطْم، جبل الخَطْم، جبل الصفيراء، جبل الخَيَالة، رابية البَرقة، جبل ستار قريش، جبل ستير، برقات الحَصانِيَة، قرينات مرزوقة، جبل ثبير الأعرج (الطارقي)، مرتفع مسيل نبعة، مرتفع جنوب المغمّس، مرتفع الصِّحين، شمال المغمّس، ثنية خلّ (خلّ الصفاح)، جبل ستار لحيان (أبو صواعق-أبو دوارق)، جبل غراب الكبير، جبل غراب الصغير، مرتفع المقرح، مرتفع الضربة، ثنية النقوى العليا؛ وعندها يلتقي الحد الشرقي والحد الشمالي.
القسم الثاني:
يشمل شبكة تصريف الأودية التي تقع ضمن منطقة الحرم (أي التي تجري فوق منطقة الحرم) وتلك الأودية التي تجري خارج منطقة الحرم، حيث تجتمع هذه الأودية جميعها في منابعها الأصلية عند خطوط تقسيم المياه.
1- شبكة تصريف المياه داخل منطقة الحرم المكي الشريف:
لقد كان تَوزّع المرتفعات الجبلية داخل منطقة الحرم المكي الشريف بسبب الحركات الباطنية التي أدت إلى وجود مجموعة من الأودية الانكسارية الرئيسة التي يتبعها مجموعة من الروافد وتشكّل بعضها مع بعض شبكةً من أحواض التصريف داخل نطاق منطقة الحرم وخارجها.
تتميز شبكة التصريف الداخلي بكثرة شعابها؛ حتى ذهبت مضرب المثل في كثرتها وتعقّدها "أهل مكة أدرى بشعابها".
إن من الملحوظ على شبكة التصريف الداخلي لمياه الأمطار في منطقة الحرم المكي الشريف أنها مرتبطة بالمرتفعات الحدودية من حيث منابع الأودية الرئيسة وبعض روافدها بقدر ما هي مرتبطة بالمرتفعات الداخلية أيضًا، وتنبع الأودية الرئيسة داخل منطقة الحرم المكي الشريف من أعالي الجبال الحدودية لمنطقة الحرم، وتمثل منابعها الأصلية نقاط الفصل بين منطقة الحرم والمناطق الخارجية أو مناطق الحل، أي خطوط تقسيم المياه.
في منطقة الحرم المكي الشريف مجموعة من شبكة أحواض التصريف تشمل حوض التصريف الرئيس لمجرى وادي إبراهيم عليه السلام، وحوض وادي فخّ المعروف بوادي الزاهر ومكة أو بكة، كما ان جزأه الأخير الذي يصب في وادي مرّ الظهران يُعرف بوادي بلدح، وأخيرًا حوض وادي محسّر الذي ينتهي بوادي عرنة في منطقة الحسينية.
ويمكن تتبع هذه الأودية حيث ينبع وادي إبراهيم من الشمال الشرقي لمنطقة الحرم المكي الشريف، وبالتحديد بالقرب من ثنية خل وجبل المقطع وجبل الطارقي (ثبير الأعرج) حيث تنقسم مياه الأمطار عند خط تقسيم المياه في اتجاهين مختلفين:
أحدهما نحو الغرب إلى وادي إبراهيم، والآخر نحو الشرق إلى وادي عرنة.
يأخذ وادي إبراهيم -من أعلى مجراه قبل ثنية خل الصفاح من الشمال الشرقي حتى نهايته في الجنوب- عدة اتجاهات حتى يخرج من منطقة الحرم ليصب في وادي عرنة، وعمومًا فإن وادي إبراهيم ذو اتجاه عام من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وتقع الكعبة المشرفة في منتصف وسط وادي إبراهيم عند انحرافه نحو الجنوب.
ويمثل وادي إبراهيم حوضًا كبيرًا وسط منطقة الحرم المكي الشريف، وله روافد عدة تسمى عند أهل مكة بالشعاب منذ القدم، مثل: شعب الخنساء، وأذاخر، والفلْق، والشامية، والشبيكة، وحارة الباب، ودحلة الرُّشّد، وطُوى، وقُوز النكاسة. وهذه الروافد تصب في وادي إبراهيم من الناحية الشمالية الغربية.
وهناك روافد أخرى، منها: شعب المعيصم، والغسّالة، والفيصلية، والمَلاوي، وشعب عامر، وشعب علي، وأجياد، وثنية كدي، والمسفلة. وهذه الروافد تصب في وادي إبراهيم من الناحية الجنوبية الشرقية.
أما وادي فخ -المعروف باسم وادي الزاهر- فإنه يقع إلى الشمال من حوض وادي إبراهيم، وينبع من أعالي جبل فخ في الشمال الشرقي من منطقة الحرم، وهو يسير في اتجاه عام من الشمال الشرقي نحو الغرب حيث يُعرف باسم وادي مكة أو بكة وأيضًا وادي بلدح؛ لينتهي في مرّ الظهران (وادي فاطمة) بالقرب من حَدّه (حَدّا). ولوادي فخ بعض الروافد التي أهمها: وادي جليل، والعشر، والمَقْرح (بَشَم)، والزاهر، وأم الجود.
أما حوض وادي محسّر فهو يقع إلى الجنوب من حوض إبراهيم، وينبع من داخل منطقة الحرم المكي الشريف؛ وينتهي في وادي عُرَنة، حيث يستمدّ مياهه من المعيصم ومنى والعزيزية والعوالي والمريخية؛ حتى ينتهي في وادي عُرَنة عند الحسينية جنوبًا.
وتشير بعض الدراسات إلى أن شبكة تصريف الأودية داخل منطقة الحرم المكي الشريف يصل مجموع أطوالها إلى 285,6 كيلو مترًا.
2- شبكة تصريف المياه خارج منطقة الحرم المكي الشريف:
أما شبكة تصريف مياه الأمطار خارج منطقة الحرم المكي الشريف فإنها تشمل حوضين رئيسين يتكونان من مجموعة من الروافد، وهذان الحوضان يحيطان بمنطقة الحرم المكي الشريف من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، ومن الشمال الشرقي إلى الغرب.
ويمثّل وادي عُرَنة -الذي يقع بجوار منطقة الحرم من الشرق ثم إلى الجنوب منها- أحد هذين الحوضين، كما يمثّل وادي جعرانة (سَرِف) -الذي يقع شمال منطقة الحرم في اتجاه عام من الشرق إلى الغرب- الحوض الآخر الذي ينتهي في وادي فاطمة.
وبشيء من التفصيل فإن حوض وادي عرنة يتكون من الوادي الرئيس ومجموعة من الروافد، التي يهمنا منها الروافد القريبة لوادي عرنة، لا سيما ما يأتي منها من جهة الغرب من مناطق ثنية خل، والمغمس الغربي، وجبل الطارقي (ثبير الأعرج)، وما يأتي منها من مناطق غيران البقر، وقرينات مرزوقة، وجبل ستير، وجبل ستار قريش، وجبل الخطم، وجبل نمرة، وجبل قرن العميرية (العابدية)، وجبل الخرابة، والجبيلات النازلة، وجبال المريخيات، ثم وادي محسّر، وجبل الراقد، وما يأتي من جهة أضاة لِبن (طريق اليمن القديم)، وجبال البشيمات، وجبل غراب والدومة الحمراء ووادي السّلولي وأم الهشيم. وهذه المسميات هي التي تقع عليها أعلام الحرم على خطوط تقسيم المياه.
وخلاصة القول: أن منطقة الحرم المكي الشريف محاطة بالمرتفعات الجبلية التي تفصلها عما حولها من المناطق، وقد نشأ عن ذلك نظامان من التصريف المائي يحفُّ أحدهما بمنطقة الحرم من الناحية الشمالية الشرقية باتجاه الشرق فالجنوب الغربي، ويمثّله حوض وادي عرنة، أما الآخر فهو يسير بمحاذاة منطقة الحرم ويحدّها من الشمال الشرقي باتجاه الغرب، ويمثّله مجموعة من الأودية والفروع التي تصبّ في وادي جعرانة (سرف) الذي ينتهي في وادي فاطمة.
إن هذه الصورة الطبيعية لتوزّع المرتفعات الجبليّة حول منطقة الحرم من جهة وتصريف المياه خارجها من جهة أخرى جعل منطقة الحرم المكي الشريف محصورةً بين معالم حدودية جغرافية واضحة على نحو لا يترك مجالاً للاجتهاد مع ما أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه عندما بعث النفر الذين بعثهم لتحديد أنصاب الحرم أمرهم أن ينظروا إلى كل وادٍ يَصُبُّ في الحرم، فنصبوا عليه، وأعلموه، وجعلوه حرمًا، وإلى كل وادٍ يَصًبُّ في الحِلّ فجعلوه حِلاً، وهو يثبت قاعدةً علميةً صريحةً تربط مواضع أعلام منطقة الحرم المكي الشريف بخطوط تقسيم مياه الأمطار على قمم الجبال والثنايا، وهو ما يمثل المسار العام لمحيط الحرم. يضاف إلى ذلك أن أحواض الأودية التي تجري داخل منطقة الحرم المكي الشريف تنصرف مياهها إلى خارج الحرم.
إن لمنطقة الحرم المكي الشريف مخارج رئيسة تصرف مياه السيول إلى خارجها، مثل: مخرج التصريف المائي عند منطقة الأعشاش (الحديبية) نحو وادي فاطمة في الغرب، ومخرج منطقة أم الهشيم (مخطط وليّ العهد) نحو وادي عرنة في الجنوب الغربي، ومخرج وادي محسّر بالحسينية إلى وادي عرنة بالجنوب، ومخرج بطن نمرة في الشرق إلى وادي عرنة، وغيرها من المخارج.
وبالمقابل فإن تصريف شبكة مياه حوض وادي عرنة وكذلك تصريف شبكة مياه جعرانة (سرف) بكل فروعها لا تدخل إلى منطقة الحرم المكي الشريف إطلاقًا، وذلك بسبب وجود المرتفعات الحدودية الفاصلة بينها وبين منطقة الحرم، وبسبب ارتفاع منطقة الحرم وميلها باتجاه الجنوب والجنوب الغربي، وهذه الحقيقة تؤيد الفرضية القائلة بأن "ماء الحل لا يدخل الحرم، وماء الحرم يخرج إلى الحل".
وختامًا: هناك أمر يتعلق بمياه أمطار داخل الحرم وخارجه تجدر الإشارة إليه، وهو= أن جميع الأودية التي بداخل منطقة الحرم المكي الشريف وتلك التي في خارجها تتجمع مياهها في واديين كبيرين معروفين؛ هما: وادي فاطمة (أو مرّ الظهران) شمال منطقة الحرم، ووادي عرنة في شرق منطقة الحرم وجنوبها في اتجاههما نحو الغرب والجنوب الغربي نحو البحر الأحمر.
مساحة منطقة الحرم المكّي الشريف:
تبلغ مساحة منطقة الحرم المكّي الشريف (556) كم2.
ويبلغ طول محيطها: (141,126,17) مترًا.
لقد وُضعتْ على حدود الحرم علامات تُعرف بـ:
1- الأعلام.
2- الأنصاب.
إن مما يبين أهمية حدود الحرم المكي الشريف هو:
1- أن الله تعالى هو الذي حدّ تلك الحدود، وأعلامُها وُضعت بوحيٍ منه سبحانه، حيث أوحى إلى إبراهيم عليه السلام بوضعها، وأرسل معه جبريل عليه السلام ليُريه مواضعها، فمواضع تلك الأعلام على حدود الحرم جاءت بأمرٍ تشريعي من الله سبحانه وتعالى إلى ملائكته وخليله إبراهيم، فهي ثابتة في أماكنها على مساراتها منذ القدم؛ لا يستطيع أي كائن أن يغيّر مواضعها أو مساراتها.
2- أن أغلب الناس -سواء كانوا من سكان مكة المكرمة أو من الوافدين إليها من المسلمين- لا يعرفون مواضع أعلام الحرم، كما أنهم يجهلون حدود الحرم الجغرافية.
وكما هو معلوم فإن حدود الحرم مرتبط بها أحكام شرعية كثيرة يجب على كل مسلم أن يعرفها، حتى لا يقع في الأمور المحظورة داخل تلك الحدود.
3- أن مكة المكرمة تشهد عهدًا زاهرًا من التقدم والتطور العمراني والنمو السكاني السريع في جميع الاتجاهات وعلى كل المستويات.
إن هذا الأمر المحسوس للجميع أدى إلى وجود أكثر من مشكلة، وأهمها: أن الزحف العمراني -الذي تجاوز منطقة الحرم المكي الشريف- زاد من كثرة تنقّل الناس وترددهم بين الحرم ومناطق الحِلّ على مدار اليوم والليلة، ومن عدة طرق وجهات؛ دون شعور بعبور خط مسار حدود الحرم.
4- أن بعض مواضع أعلام الحرم المكي الشريف أصبحت ضمن المخططات والأحياء السكنية.
وهنا نجد أن السكان لا يعلمون بوجود هذه المواضع ضمن مناطقهم وتحت منازلهم، وكثير منهم لا يستطيعون التمييز بين مناطق الحلّ ومنطقة الحرم، وهذا يوقعهم في المحظور، فضلاً عن أن كثيرًا من الناس لا يعرفون أحكام الحرم الشرعية.
وهذه الأمور ترجع في أساسها إلى أنه ليس لدى الناس المعرفة المكانية لمواضع الأعلام، ولا ما يدل عليها على الطبيعة حيث يعيشون ويتنقلون.
5- أنه ليس هناك معرفة ووعي بين الناس بالقواعد العامة لضبط مواضع أعلام الحرم المكي الشريف.
فإبرازًا لأهمية شأن حدود الحرم= كان تجديد تلك الأعلام من أوائل ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، حيث بعث تميم بن أسد الخزاعي ليقوم بتلك المهمة.
فلم تشغله صلى الله عليه وسلم المهام الجسام التي تنتظره أن يقوم بها في ذلك اليوم عن العناية بأعلام تلك الحدود.
إذن هذه القضية من القضايا الكبرى؛ التي يجب أن تنال من اهتمام الأمراء بعد النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير، وهكذا فقه الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر.
وسنرى كم كانت هذه المسألة مهمة عند أمراء المسلمين، حتى قامت هيئة في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه بأمرٍ منه؛ عملها تجديد أعلام الحرم كل عام، نعم كل عام.
إن معرفة مسارات حدود الحرم الجغرافية من جميع الجهات المعروفة شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا= تعدّ أمرًا ضروريًا للمسلمين الذين يعيشون داخل هذه الحدود؛ أي في منطقة الحرم، والذين يعيشون خارج هذه الحدود؛ أي في الحلّ، فهي من أهمّ ما ينبغي أن يُعتنى به، لأنها تتعلق بها أحكام كثيرة.
لعلامات الحرم فوائد عدّة:
1- التمييز بين الحِلّ والحرم.
2- التذكير والتنبيه على قُدسية الحرم وخصائصه.
3- التذكير بأنبياء الله تعالى وملائكته عليهم السلام، لأن هذه الحدود وضعها الخليل إبراهيم عليه السلام وأراه جبريل عليه السلام مواضعها، وجددها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
4- إظهار تميّز مكة شرفها الله عن سائر البلدان، حيث إن كل البلدان وُضعت حدودها بفعل البشر، أما مكة فإن حدودها توقيفية بوحي من الله تعالى ولا مدخل للبشر فيها، ولا يمكن إلغاؤها ولا تبديلها.
كان الخليلُ إبراهيم عليه السلام هو أول من وضع علامات الحرم بأمرٍ من الله تعالى، وكان جبريل عليه السلام هو الذي كان يُريه مواضع تلك العلامات، فمواضع أعلام الحرم المكي الشريف معلومة بصورةٍ توقيفيةٍ منذ زمن إبراهيم عليه السلام.
لقد حفظت لنا العناية الإلهية آثار أعلام الحرم المكي الشريف منذ لحظة وجودها في أماكنها ومواضعها على يد سيّدنا إبراهيم الخليل عليه السلام ومن بعده رسولنا الكريم المصطفى محمد بن عبدالله الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، حتى وقتنا الحاضر.
إنّ حفظ الله سبحانه وتعالى لمواضع أعلام الحرم سوف يبقى ما شاء الله أن تدوم.
ومن علامات حفظ الله سبحانه وتعالى لمواضع أعلام الحرم= أن سخّر من عباده من عمل لبناء الأعلام وتجديدها على مرّ العصور والأزمنة. وهذه هي اليوم قائمة شامخة تشهد بنفسها على وجودها واستمرارها بالرغم مما يصيبها من أذى وتغيير وتأثيرات طبيعية وغير طبيعية عبر الزمن.
والاهتمام بأعلام الحرم قد مرّ بأربع مراحل رئيسة:
المرحلة الأولى: تمثّل مرحلة تأسيس الأنصاب في مواضعها على يد سيدنا إبراهيم عليه السلام.
والمرحلة الثانية: تمثّل مرحلة تجديد تلك الأنصاب بعد سيدنا إبراهيم عليه السلام.
والمرحلة الثالثة: التي بدأت في عهد الراضي العباسي حتى عهد السلطان عبدالمجيد خان الأول العثماني، وكان الاهتمام فيها منصبّا على تجديد الأعلام في مداخل مكة المكرمة الرئيسة، وخصوصًا من جهات التنعيم وعرفة وطريق جدة.
أما المرحلة الرابعة: فهي المرحلة التي بدأت في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود يرحمه الله؛ وأبنائه من بعده، حيث بُني ستة وعشرون علمًا خلال هذه المرحلة، منها ستة عشر في عهد الملك فهد يرحمه الله.
ويمكن الوقوف على تلك المراحل بالتفصيل من خلال الجدول الآتي:
م |
اسم مجدّد الأعلام |
من قام بالتجديد |
سنة التجديد |
الأعلام التي تم تجديدها |
1 |
إسماعيل عليه السلام |
------ |
------ |
تجديد جميع أعلام الحرم المحيطة به |
2 |
عدنان بن أدد |
------ |
------ |
تجديد جميع أعلام الحرم المحيطة به |
3 |
قصي بن كلاب |
------ |
------ |
تجديد جميع أعلام الحرم المحيطة به |
4 |
قريش |
رجال من قبيلة قريش |
تجديد جميع أعلام الحرم المحيطة به |
|
5 |
رسول الله |
تميم بن أسد الخزاعي، الأسود بن خلف |
8 هـ |
تجديد جميع أعلام الحرم المحيطة به |
6 |
عمر بن الخطاب (40ق هـ-23 هـ) |
-مخرمة بن نوفل، سعيد بن يربوع المخزومي، حويطب بن عبد العزى، أزهر بن عبد عوف الزهري، وصبيحة بن الحارث بن جبيلة، وعجير بن عبد يزيد بن هاشم |
17 هـ |
تجديد جميع أعلام الحرم المحيطة به |
7 |
عثمان بن عفان 47ق هـ- 35هـ) |
عبدالرحمن بن عوف، حويطب بن عبدالعزى، عبدالرحمن بن أزهر. |
26 هـ |
تجديد جميع أعلام الحرم المحيطة به |
8 |
معاوية (20 ق هـ-60 هـ) |
كرز بن علقمة الخزاعي |
قبل سنة 48 هـ |
تجديد جميع أعلام الحرم المحيطة به |
9 |
عبد الملك بن مروان (26 هـ - 65 هـ) |
ثلاثة شيوخ من خزاعة وقريش وبني بكر |
75 هـ |
تجديد جميع أعلام الحرم المحيطة به |
10 |
المهدي العباسي (127 هـ - 169 هـ) |
------ |
من سنة 158 هـ إلى سنة 169 هـ |
تجديد جميع أعلام الحرم المحيطة به |
11 |
الراضي العباسي (297 هـ - 329 هـ) |
------ |
325 هـ |
بناء العلمين اللذين بالتنعيم |
12 |
الملك المظفر صاحب إربل (ت 645هـ) |
------ |
616 هـ |
بناء العلمين اللذين هما حد الحرم من جهة عرفة |
13 |
الملك المظفر صاحب اليمن (619 هـ - 694 هـ) |
------ |
683 هـ |
بناء العلمين اللذين هما حد الحرم من جهة عرفة |
14 |
السلطان قايتباي (815 هـ - 901 هـ) |
------ |
874 هـ |
تجديد أعلام الحل من جهة عرفة |
15 |
السلطان أحمد خان الأول (998 هـ - 1026 هـ) |
حسن باشا المعمار |
1023 هـ |
تجديد العلمين اللذين هما حد الحرم من جهة عرفة |
16 |
الشريف زيد بن محسن (1014هـ - 1077هـ) |
------ |
1073 هـ |
تجديد جميع حدود مداخل الحرم |
17 |
السلطان عبد المجيد خان (1237 هـ - 1277هـ) |
------ |
1262 هـ |
تجديد أعلام الحرم من طريق التنعيم |
18 |
السلطان عبد المجيد خان 1237 هـ - 1277هـ) |
------ |
1263 هـ |
تجديد أعلام الحرم من طريق جدة |
19 |
الملك عبد العزيز آل سعود |
------ |
بعد عام 1343 هـ |
بناء علمين جديدين في طريق جدة القديم (الشميسي) |
20 |
الملك سعود بن عبد العزيز |
------ |
1376 هـ |
بناء علمين جديدين في طريق القديم (الشميسي) |
21 |
الملك سعود بن عبد العزيز |
------ |
1377 هـ |
بناء علمين جديدين في طريق الطائف (السيل) |
22 |
الملك خالد بن عبد العزيز |
------ |
بناء علمين جديدين في طريق الطائف من جهة عرفة |
|
23 |
الملك خالد بن عبد العزيز |
------ |
أواخر عهده |
أقام علمين جديدين في طريق جدة القديم |
24 |
خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز |
------ |
1404 هـ |
بناء علمين جديدين في منطقة التنعيم |
25 |
خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز |
------ |
1407 هـ |
تجديد العلم الغربي من العلمين الاسطوانيين اللذين في التنعيم |
26 |
خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز |
------ |
1423هـ |
بناء علمين جديدين متقابلين في مدخل مكة المكرمة من جهة التنعيم من الحد الشمالي |
27 |
خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز |
------ |
1423هـ |
بناء علمين جديدين متقابلين على مدخل مكة الغربي من الحد الغربي |
28 |
خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز |
------ |
1423هـ |
بناء علمين جديدين متقابلين في مدخل مكة المكرمة من جهة الليث من الحد الغربي |
29 |
خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز |
------ |
1423هـ |
بناء علمين جديدين متقابلين في مدخل مكة المكرمة على طريق اليمن من الحد الجنوبي |
30 |
خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز |
------ |
1423هـ |
بناء علمين جديدين متقابلين في مدخل مكة المكرمة على طريق الحسينية من الحد الجنوبي |
31 |
خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز |
------ |
1423هـ |
بناء علمين جديدين متقابلين في مدخل مكة المكرمة على طريق الطائف – الهدا بقرب نهاية الحد الجنوبي وبداية الحد الشرقي |
32 |
خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز |
------ |
1423هـ |
بناء علمين جديدين متقابلين في مدخل مكة المكرمة على طريق الطائف – السيل من الحد الشرقي |
33 |
خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز |
لجنة أعلام الحرم المكي الشريف |
1417هـ - 1430هـ |
تحديد وتثبيت أعلام الحرم المكي في جميع الجهات وعلى سائر المواضع وبلغ عدد الأعلام: 1104 علمًا |
34 |
خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز |
------ |
1434هـ |
إنشاء أقواس بوابة حد الحرم في الشميسي على طريق جدة السريع |
1- من حكمة الباري عز وجل أن جعل علامات حدود الحرم المكي الشريف مرتبطةً بمواضعها الطبيعية؛ أي الأمكنة الموجودة عليها.
2- عدد المسميّات والأمكنة التي تقع عليها أعلام الحرم المكي الشريف على كل حدوده من جميع الجهات: (106) مسمّيات ما بين جبل ومرتفع وثنية أو منخفض.
3- عدد أعلام الحرم المكي الشريف بحسب ما توصّلت إليه لجنة رسمية شكّلتها الحكومة السعودية: (1104) أعلام؛ موزعة على النحو التالي:
- في الحدّ الشمالي: (650) علمًا.
- في الحدّ الغربي: (38) علمًا.
- في الحدّ الجنوبي: (299) علمًا.
- الحدّ الشرقي: (117) علمًا.
4- الحدّ الشمالي هو أطول حدود الحرم في امتداده من الشرق إلى جهة الغرب؛ قاطعًا مسافةً مقدارها (50079,84) مترًا، يليه الحدّ الجنوبي الذي يصل طوله إلى (42950,90) مترًا؛ في اتجاهه من الغرب نحو الشرق، ثم الحدّ الشرقي الذي يصل طوله إلى (29790,95) مترًا عبر اتجاهه العام من الجنوب الشرقي نحو الشمال، أما الحدّ الغربي فهو أقصر حدود الحرم المكي الشريف، إذ لا يتجاوز طوله أكثر من (18304,48) مترًا؛ على مدى امتداده من الشمال إلى الجنوب.
5- أكثر من نصف عدد أعلام الحرم تقع على الحد الشمالي (650) علم.
6- العَلم الأعلى ارتفاعا عن سطح البحر هما عَلمان يقعان على جبل ستار لحيان في الحدّ الشرقي، ويبلغ ارتفاعهما (685) مترًا.
7- العلم الأقلّ ارتفاعا عن سطح البحر هي الأعلام التي تقع في منطقة الأعشاش في الحدّ الغربي، ويبلغ ارتفاعها (154) مترًا.
8- أقرب علم إلى الكعبة المشرّفة يقع في منطقة التنعيم في الحدّ الشمالي، ويبعد عن الكعبة المشرّفة مسافة (5201) مترًا.
9- أبعد علم عن الكعبة الشريفة يقع على جبل المُوشَّح في الحدّ الغربي، ويبعد عن الكعبة المشرّفة مسافة (21234) مترًا.
10- أعلام الحرم تختلف بعضها عن بعض في بعض خصائصها من حيث مستوى الارتفاع والمسافة والشكل والحجم والعدد من موضع إلى آخر، ومن مرتفع إلى مرتفع، ومن حدّ إلى حدّ؛ حسب مراحل تجديدها عبر العصور، ووفقًا للإمكانات المتاحة لبنائها، غير أن الحقيقة الثابتة أن مواضعها لم تتغير طبقًا للقاعدة الأساس التي وجدت عليها؛ وهي خط تقسيم المياه، ذلك الخط الذي يتبع نظامه الطبيعي كما أراد الله تعالى له أن يكون عليه على الطبيعة مهما اختلف تركيبها أو شكلها.
11- أعلام حدود الحرم المكي تنقسم إلى قسمين:
- أ- أعلام على رؤوس الجبال والشّعاب التي تحيط بالحرم من جهاته الأربع.
- ب- أعلام على مداخل مكة المكرمة؛ من واقع الطرق الموجودة الآن قديمها وحديثها.
12- بتوفيق الله تعالى أُنشئ 14 عَلمًا حديثًا على مداخل مكة المكرمة الرئيسة؛ منها علمان على مدخل مكة المكرمة على طريق (مكة-السيل-الطائف) السريع (على ثنية خلّ أو خلّ الصفاح)، وعلمان على مدخل مكة المكرمة من جهة التنعيم عند مسجد عائشة رضي الله عنها، كذلك أنشئ علمان على طريق (مكة-جدة) السريع، وعلمان على طريق (مكة-الليث)، وعلمان على مدخل مكة المكرمة من جهة طريق اليمن القديم، وعلمان على طريق الحسينية جنوب مكة المكرمة، وأخيرًا بُني علمان على طريق (مكة-الهدا-الطائف) السريع.
وهذه الأعلام أنشئت وفقًا للضوابط والقواعد الأُسس لمواضع الأعلام القديمة وعلى مساراتها الصحيحة، ويُتوقع بإذن الله تعالى إنشاء أعلام جديدة على غرار الأعلام السابقة في بعض المنافذ الأخرى لمكة المكرمة.
13- الملاحظ في مواضع أعلام الحرم المكي الشريف وكذلك مسارها العام على كل محيط الحرم= أنها لا تسير على شكل خط مستقيم، بل هي خط متعرّج تكثر فيه الزوايا والانحرافات، يتْبع مسارُها خطًا طبيعيًا يصل بين أعلام الحرم في مواضعها على قمم الجبال وفي الثنايا والمنحدرات، وهو خط تقسيم مياه الأمطار، أي الخط الذي تنقسم عنده مياه الأمطار في اتجاهين متعاكسين يكون أحدهما نحو منطقة الحرم والآخر إلى خارجها أو ما يُعرف بالحلّ.
إن مواضع الأعلام مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقواعد وضوابط طبيعية يأتي في مقدمتها قاعدة خط تقسيم مياه الأمطار، وقاعدة "ماء الحل لا يدخل الحرم وماء الحرم يخرج إلى الحل، وكذلك قاعدة المحاذاة.
هذه الارتباطات الطبيعية تفسر لنا سبب بناء الأعلام في مواضعها على شكل نقاط متتابعة على الطبيعة وفقًا لقواعد تقسيم مياه الأمطار التي ترسم مساراتها على قمم الجبال والمرتفعات التي تفصل بين الحل والحرم. وبمعنى آخر تمثل خطوط تقسيم المياه فوق المرتفعات المحيطة بالحرم المكي الشريف المسار العام للحدود الجغرافية الصحيحة لمنطقة الحرم التي تقع عليها مواضع الأعلام.
تبعًا لذلك فإننا سنتناول -بمشيئة الله تعالى- الخصائص الجغرافية العامة لكل حدّ من حدود الحرم الأربعة؛ بدءًا بالحد الشمالي الذي يبدأ من جهة الشمال الشرقي لمنطقة الحرم من ثنية النقوى العليا شرق ثنية المستوفرة إلى نهاية هذا الحد في جزئه الغربي بمنطقة الأعشاش على طريق مكة – جدة القديم، وحيث يبدأ الحد الغربي وينتهي في الجنوب عند التقائه الحد الجنوبي غرب منطقة أم الهشيم على جبال الجذبان.
يلي ذلك الحد الجنوبي الذي يبدأ من جهة الغرب عند اتصاله بالحد الغربي غرب منطقة أم الهشيم وباتجاه الشرق إلى أن يصل إلى جبل قرن العميرية (أو العابدية) على طريق مكة-الطائف (الهدا)، حيث يبدأ الحد الشرقي من عند هذا الجبل مخترقًا أرضًا فضاءً إلى جبل نمرة حيث ينعطف المسار نحو الشمال الشرقي ثم الشمال حتى يصل إلى ثنية النقوى العليا حيث يلتقي الحدان الشرقي والشمالي شرق ثنية المستوفرة.
1- الحدّ الشمالي:
مسميّات هذا الحدّ على النحو التالي: جبل السطيحة، جبل الدهماء، جبل النقوى السفلى، جبل أم سدرة، جبل شبيرم، جبل أم المعين، جبل الحمراء (بغبغة)، جبل الحِثْنة، جبل فُراع فَخّ، جبل فُراع القَعُود، جبل حجلى، جبل الوقير، جبل صائف، جبل نعمان، منطقة التنعيم، جبل نعيم، مرتفع منطقة البحيرات، جبل الجفر (الواتد)، جبل رحى، جبل الرضيع (الرضيعة)، جبل أم القَزاز، جبل أم الشبرم، جبل أم المَرْخ، جبل أبو بقر (أبو دِلِي)، جبل أبو زَوَالة (الناصرية)، منطقة الأعشاش، منطقة الحديبية.
يعدّ هذا الحدّ الشمالي أطول حدود الحرم الأربعة، ويوجد عليه أكثر من نصف عدد أعلام الحرم (650 علمًا)، وطبيعة تضاريسه صعبة ووعرة على طول امتداده من الشرق إلى الغرب.
يبلغ طول هذا الحدّ 50079,84 مترًا على طول امتداده من الشرق إلى الغرب؛ وهذا الامتداد الطولي حُسب على أساس خط متعرّج يتبع في ذلك مسار الأعلام حسب مواضعها حسب قاعدة خط تقسيم مياه الأمطار.
يضاف إلى ذلك أن الحد الشمالي للحرم يشتمل على سلسلة متصلة من المرتفعات أو الجبال العالية معقّدة التركيب التي يصعب تسلّق معظمها لوعورتها، وهذه الجبال معظمها في أصلها جبال انكسارية. هذه السلسلة الجبلية لها ابتدأ ولها نهاية، فهي تبدأ في القسم الشرقي من الحد الشمالي من شرق ثنية النقوى العليا مرورًا بثنية المستوفرة ثم جبل السطيحة، وتنتهي غربًا في منطقة التنعيم.
وفي الواقع فإن منطقة شمال الحرم المكي الشريف التي يمثلها الحد الشمالي هي منطقة جبلية واسعة، ولجبالها اتجاهات ليست واحدة وذلك بحكم العوامل التي أدت إلى تكوينها، ولا سيما وهي -كما أشرنا- جبال انكسارية، فبعضها له اتجاه شمالي - جنوبي، وبعضها الآخر ذو اتجاه شرقي - غربي..إلخ.
إن للحد الشمالي من الحرم المكي الشريف (بنصفيه الشرقي والغربي) مسميات كثيرة، وله حدود واضحة، حيث يحدّه من الشمال وادي ثرير؛ الذي يلتقي وادي جعرانة ليشكّل التقاؤهما وادي الوسيعة الذي ينتهي في وادي سرف في منطقة النورانية (النورية) غرب طريق مكة - المدينة السريع؛ يلي ذلك وادي ياج الذي يصبّ فيه وادي بشم، حيث يتجّه هذا الوادي (وادي ياج) غربًا قاطعًا طريق مكة - المدينة السريع، ثم يلتقي وادي التنعيم غرب بئر مقيت حيث يصب فيه مجموعة من الأودية والشعاب الفرعية مثل شعب نجمة، وأخيرًا ينتهي هذا الوادي في وادي سرف الذي هو كذلك ينتهي في وادي مرّ الظهران (وادي فاطمة) شمال منطقة الأعشاش (الشميسي) بالقرب من حدّا بالقرب من قرية المرشدية.
إن جميع هذه الأودية تقع في مناطق الحل وتصبّ مياهها خارج حدود الحرم.
ومن جهة الجنوب فإن الحد الشمالي للحرم المكي الشريف يحده وادي العسيلة (المعروف قديمًا باسم شعب آل عبدالله بن خالد بن أسيد) حيث يلتقيه وادي فخ ثم وادي بشم (المقرح) ويعرف المجرى الرئيس لهذا الوادي باسم وادي فخ، ويتجه من الشمال الشرقي نحو الزاهر أو الشهداء، ثم ينحرف في منطقة أم الجود نحو الغرب ثم الشمال الغربي لينتهي في منطقة الأعشاش باسم وادي مكة أو بكة أو بلدح الذي يصب في وادي مرّ الظهران بالقرب من حدّا.
أما من ناحية الشرق فإن الحد الشمالي للحرم المكي الشريف يكون ضيقًا جدًا، ويحدّه ثنية النقوى العليا التي هي مقسم لمياه الأمطار على الحد الشرقي من الحرم المكي الشريف شرق ثنية المستوفرة. ومن جهة الغرب -كما أسلفنا- يوجد منخفض منطقة الأعشاش (الشميسي) عند الأعلام على طريق مكة - جدة القديم.
وبناء على ما تقدّم يمكن أن نصف مسار الأعلام على القسم الشرقي من الحد الشمالي من الحرم المكي الشريف بأنه يبدأ من آخر علم على ثنية النقوى العليا، مرورًا بثنية المستوفرة، ثم إلى أول علم على جبل السطيحة من ناحية الشرق باتجاه الغرب، ثم ينحرف المسار نحو الجنوب الغربي متعرّجًا إلى أن يصل إلى منطقة التنعيم.
وأما القسم الغربي من الحد الشمالي فيبدأ عند نهاية القسم الشرقي وسط منطقة التنعيم باتّجاه عامّ نحو الغرب ليشمل سلسلة من المرتفعات من جبل نعيم ومنطقة البحيرات ثم جبل الواتد الذي يعرف بجبل (الجفر)، ثم جبل رحى الذي يتصل به (بعد منخفض) من ناحية الغرب جبل الرضيع أو الرضيعة، ثم جبل أم القزاز، ثم جبل أم الشبرم، ثم إلى جبل أم المرخ الذي يليه جبل (أبو بقر) الذي يسمى بجبل (أبو دلي)، وأخيرًا جبل (أبو زوالة) المعروف بالناصرية الذي يشرف على منطقة الأعشاش حيث ينتهي هذا القسم الغربي من الحد الشمالي في منطقة الأعشاش، وذلك بطول 28178,31 مترًا.
وكما سبق أن ذكرنا من خاصية التعرّج للقسم الشرقي فإن مسار هذا القسم يتجّه جنوبًا عند مسجد عائشة رضي الله عنها (التنعيم)، ثم يعود منحرفًا نحو الغرب، فالشمال، ثم نحو الغرب، ثم الشمال الغربي، ثم الغرب مرة أخرى، ثم الجنوب، فالجنوب الغربي، ثم الغرب، لينتهي عند الأعشاش.
2- الحدّ الغربي:
مسميّات هذا الحدّ على النحو التالي: جبل أظلم الشمالي، جبل أظلم الجنوبي، جبل الموشَّح، جبيلات الجذبان (الحشفان).
يبدأ الحد الغربي للحرم المكي الشريف من منطقة الأعشاش المعروفة بالشميسي أو الحديبيبة، حيث الأعلام التي أنشأها الملك عبدالعزيز رحمه الله، وكذلك الأعلام التي بناها الملك خالد بن عبدالعزيز رحمه الله، ومنها يتجّه الحد نحو الجنوب الغربي؛ ليقطع أرضًا تغطيها الرمال تُعرف محليّا بـ"الرقي" وهي عروق رملية، كما أنها تُعرف بأسماء أخرى مختلفة منها "الرثماء" أو "الرثماء"، كذلك عرفت بـ"بحيرة الرثماء".
بعدها يتصل الحد بجبل صغير أبيض قبل أن يصل إلى جبل أظلم الشمالي، وهنا يجب أن نشير إلى أن الحد الغربي في هذه المنطقة يسير على قاعدة المحاذاة بصفتها خطًا مستقيمًا يربط بين الأعلام وبين الجبل الأبيض؛ لأنها مخارج للماء من الحرم إلى الحل.
يلي ذلك سلسلة جبل أظلم الجنوبي التي تنتهي عند خط مكة - جدة السريع (ريع الحمار) حيث يستمر الحد جنوبًا على مجموعة من جبال الموشّح إلى أن يصل إلى طريق الليث عند ريع الموشّح؛ ليقطع الطريق متجهًا جنوبًا على جبيلات صغيرة تسمى الجذبان أو الحشفان حتى آخر جبيل منها، وينحرف المسار بعد ذلك باتجاه الشرق حيث يبدأ الحد الجنوبي.
إن الحد الغربي يمتد من أحد الأعلام التي بناها الملك خالد بن عبدالعزيز يرحمه الله إلى أن يصل إلى آخر علم على جبيلات الجذبان أو الحشفان، وذلك لمسافة تصل إلى 18304,48 أمتار.
والحد الغربي (سوى منطقة الأعشاش الرملية) تمثله السلسلة الجبلية المتصلة بدءًا من أظلم الشمالي حتى نهاية جبيلات الحشفان.
3- الحدّ الجنوبي:
مسميّات هذا الحدّ على النحو التالي: جبل حَشِيْف الكلاب، جبل الدومة الحمراء، جبل بشيمات (البشائم)، جبل غراب، جبل لُبينات، جبل كبش، جبيلات وكثبان، جبل الراقد، جبال الكريزات، جبل جِرْوَة، جبل أم طَبَق، جبل المقيطع، جبل المريخيات (ذو مراخ)، جبل أم العَرْفَج، جبيلات النازلة، جبل الحَلْق، جبل الخرابة (أبو خرابة)، جبل قرن العميرية (العابدية).
يبدأ الحد الجنوبي للحرم المكي الشريف من نهاية الحد الغربي في آخر جبيلات الجذبان (الحشفان) حيث يعبر مسار الأعلام منطقة أم الهشيم بالمحاذاة "خط مستقيم" باتجاه الشرق إلى جبل حشيف الكلاب (في مقدمة جبل الدومة الحمراء)، فجبل الدومة الحمراء، ثم جبال البشيمات، ثم جبل غراب، ثم جبال لبينات.
ومن جبال لبينات يقطع المسار طريق اليمن القديم عبر منخفض العكيشية (أضاة لِبن) بالمحاذاة إلى أن يصل إلى جبل كبش (جبل صغير في مقدمة جبل الراقد إلى الغرب منه) حيث يصعد المسار بعده إلى جبل الراقد باتجاه الشمال منحرفًا نحو الشرق على جبال الكريزات عابرًا ثنية ابن كُرز (مقابل جبل ثور إلى جنوبه)، ثم جبل جروة متجهًا جنوبًا نحو جبل أم طبق، فجبل المقيطع.
ثم يعبر المسار أرض الحسينية بالمحاذاة إلى جبال المريخيات متجهًا شرقًا وعبر ريع مهير إلى جبل أم العرفج، فجبيلات النازلة، ثم جبل الحلق، ثم جبل الخرابة حتى يصل إلى جبل قرن العميرية أو العابدية (على طريق مكة - الطائف الهدا).
وهذا الامتداد يأخذ اتجاهًا عامًا غربياً - شرقيًا بموازاة وادي عرنة الواقع إلى الجنوب منه على طول امتداده، ويصل طول هذا الامتداد إلى ما يقرب من 42951 مترًا، فهو بهذا الامتداد يأتي في المرتبة الثانية من حيث الطول بعد الحد الشمالي للحرم المكي الشريف.
ومن الناحية الطبوغرافية نجد الحد الجنوبي يشمل سلسلةً جبليةً غير متصلة ومتقطعة يفصل بعضها عن بعض مناطق منخفضة، منها منطقة أم الهشيم التي تفصل بين آخر علم على جبيلات الحشفان وبين جبل حشيف الكلاب في مقدمة جبل الدومة الحمراء، وهذه المنطقة الفاصلة تمثّل منخفضًا تتجمع فيها مياه الأمطار مع ميل واضح نحو الجنوب باتجاه وادي عرنة.
ثم يأتي بعد ذلك منخفض وادي السلولي بين الدومة الحمراء وجبال البشيمات، يلي ذلك منخفض أضاة لبن (العكيشية)، فطريق اليمن أو منطقة القيزان، ومنها إلى جبل كبش. وهناك منخفض الحسينية الذي يخترقه وادي محسر، ثم منخفض العابدية بين جبيلات النازلة وجبل الخرابة.
وتقع منطقة أم الهشيم بين جبيلات الحشفان وجبل حشيف الكلاب، وهي منطقة منخفضة تتجمع فيها مياه الأمطار (وتسمى بردهة أم الهشيم)، يعبر من خلالها مسار الحد الجنوبي من الحرم.
ويأتي منخفض آخر بين جبال الحد الجنوبي في المنطقة الواقعة بين جبل لبينات وجبل كبش في مقدمة جبل الراقد غربًا. وهذه المنطقة تغطيها الرمال ويطلق عليها اسم "قيزان الراقد"، ويخترقها طريق اليمن القديم. ويصل طول هذه المنطقة من ناحية الغرب من آخر علم على جبل لبينات إلى العلم الواقع على جبل كبش إلى 2477 مترًا تمثّل مسار حد الحرم.
ويتدرج ارتفاع هذه المنطقة من المرتفع نسبيًا شمال مسار حد الحرم إلى المنخفض جنوبه باتجاه وادي عرنة جنوبًا.
وهناك منطقة أخرى تقع بين آخر علم على جبل المقيطع من ناحية الشرق إلى أول علم على جبال المريخيات (ذو مراخ) من جهة الغرب من الحد الجنوبي، وهذه المنطقة الفاصلة منخفضة؛ وهي في معظمها طينية وتسمى بأرض الحسينية، وبها مزارع يخترقها وادي محسر الذي تصب مياهه في وادي عرنة جنوبًا. ويصل امتداد هذه المنطقة فيما بين العلمين إلى 2070 مترًا تمثّل مسار حد الحرم، وهذه المنطقة
لم يُعثر فيها على أعلام، ولعل السبب يعود إلى وجود المزارع وكونها منطقة سكانية، وهو ما أدى إلى إزالة بعض أعلام الحرم فيها إن كانت قد وجدت أصلاً، وربما كان ذلك بسبب فعل السيول وكذا تطور العمران الذي ربما أزال تلك الأعلام.
وأخيرًا هناك منطقة فاصلة أخيرة وهي صغيرة عمومًا تقع بين آخر علم على جبيلات النازلة شرقًا وأول علم على جبل الحلق في ناحيته الجنوبية مما يلي وادي عرنة، يخترقها وادٍ صغير وتسمى بأرض العابدية (وهي الآن جزء من جامعة أم القرى في حرمها الجامعي الجديد) وهذه المنطقة لم يُعثر فيها على أعلام كذلك، غير أنه يجب التنبيه هنا إلى أن مسار الحد يقطع هذه المناطق فيما بين الأعلام.
إن مياه منطقة أم الهشيم تصب في ردهة أم الهشيم الواقعة جنوب مسار حد الحرم وينتهي ماؤها إلى وادي عرنة جنوبًا منها، كذلك فإن المياه المتجهة من الشعاب والأودية التي تتجه نحو قيزان الراقد هي كذلك تأتي من منطقة الحرم باتجاه وادي عرنة جنوب مسار الحد الواصل بين الأعلام في جبل لبينات وجبل كبش، وبالمثل في منطقة الحسينية حيث تتجه المياه المتجمعة من الشعاب وأودية العزيزية والعوالي وغيرها؛ وهي التي تسيل من منطقة الحرم باتجاه وادي عرنة جنوبًا قاطعةً مسار الحد بين الأعلام الواقعة على جبل المقيطع غربًا وجبل المريخيات شرقًا، وأخيرًا في منطقة طينة العابدية الواقعة بين جبيلات النازلة وجبل الحلق هي كذلك يتجه ماؤها إلى وادي عرنة جنوبًا ويقطعها مسار الحد فيما بينها.
4- الحدّ الشرقي:
مسميّات هذا الحدّ على النحو التالي: جبل نمرة، أرض نمرة، جبل دقم الخَطْم، جبل الخَطْم، جبل الصفيراء، جبل الخَيَالة، رابية البَرقة، جبل ستار قريش، جبل ستير، برقات الحَصانِيَة، قرينات مرزوقة، جبل ثبير الأعرج (الطارقي)، مرتفع مسيل نبعة، مرتفع جنوب المغمّس، مرتفع الصِّحين، شمال المغمّس، ثنية خلّ (خلّ الصفاح)، جبل ستار لحيان (أبو صواعق-أبو دوارق)، جبل غراب الكبير، جبل غراب الصغير، مرتفع المقرح، مرتفع الضربة، ثنية النقوى العليا.
يأتي الحد الشرقي للحرم المكي الشريف بعد الحد الجنوبي من حيث طول الامتداد، حيث يصل طول المسار إلى 29791 مترًا. ويبدأ امتداده من آخر علم على رأس قرن العميرية عند نهاية الحد الجنوبي؛ قاطعًا منخفضًا باتجاه الشمال يعرف باسم "طينة العميرية" (تقع فيما بين قرن العميرية وجبل نمرة)، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مسار حد الحرم يقطع أرض العميرية؛ واصلاً بين آخر علم على جبل قرن العميرية وأول علم على جبل نمرة، حيث تكون الصلة هنا بالمحاذاة (خطًا مستقيمًا). يأتي بعدها جبل نمرة، ويليه باتجاه الشمال منخفض واسع يعرف باسم "أرض الهمدانية" أو "أرض نمرة" حيث به بعض الأعلام القائمة القديمة والحديثة.
يلي ذلك دقم الخطم، فجبل الخطم، ثم منخفض يأتي بعده جبل الصفيراء ويقطع هذا المنخفض الطريق (رقم 9) القديم (10 الجديد) من الطرق المؤدية إلى عرفات، يلي ذلك منخفض به بعض المزارع، يأتي بعده جبل الخيالة، ثم منخفض آخر على شكل شعب يأتي بعده مرتفع على شكل رابية تعرف باسم "البرقة" إلى شمال شرق جبل الخيالة، ثم يأتي جبل ستار قريش الذي يقع إلى الشمال من البرقة.
بعد ذلك تأتي أرض سهلة تمثّل مسيلاً وبها بعض المزارع، يليها شمالاً جبل صغير يعرف باسم "جبل ستير"، وبعده واد كبير يتّجه نحو وادي عرنة أرضه منبسطة وبه بعض البلدان الزراعية، يليه شمالاً مرتفعات صغيرة تسمى برقات الحصانية، يليها مرتفعات أخرى صغيرة تسمى غيران البقر، يليها مباشرة مرتفعات صغيرة أخرى تسمى قرينات مرزوقة، وبعدها ينتقل المسار إلى جبل ثبير الأعرج (الطارقي) على طرفه الشرقي.
ثم ينتقل المسار إلى أكمة صغيرة في مسيل النبعة شمال ثبير الأعرج في جنوب المغمس، ثم إلى جبيل صغير يسمى بالصحين، ثم إلى شمال المغمس حيث يوجد سلسلة من الجبيلات الصغيرة يأتي بعدها ثنية خلّ الصفاح على طريق (مكة - الطائف السيل) حيث توجد أعلام الملك سعود يرحمه الله.
بعد ذلك ينتقل المسار إلى جبل ستار لحيان أو جبل (أبو صواعق) كما يسمى في بعض الأحيان، ويقال له أيضًا (أبو دوارق)، وهو يقع إلى شمال طريق (مكة - الطائف السيل)، يليه بعد ذلك ريع يسمى بالخرج، ثم جبل الغراب الكبير في الشمال الشرقي منه، ثم جبل الغراب الصغير، ثم إلى المقرح، ثم إلى مرتفع ليس بالكبير يسمى بالضربة وأخيرًا إلى ثنية النقوى العليا بصفتها آخر نقطة في الحد الشرقي وهي التي تعد نقطة الوصل بين الحد الشرقي والحد الشمالي للحرم المكي الشريف.
وإن مما يُشار إليه= أن هذا الحد من حدود الحرم المكي الشريف قد كثرت فيه مشروعات الطرقات من مكة وإليها، كما كثرت فيه المخططات السكنية في أماكن متفرقة، الأمر الذي يعني طمس بعض المعالم الطبيعية لخط تقسيم المياه، بل إزالة بعض الأعلام من مواقعها.
من الناحية الطبوغرافية فإن الحد الشرقي للحرم المكي الشريف ليس كمثل بقية الحدود الثلاثة السابقة، فهو ليس على استقامة واحدة، وبمعنى آخر فإن اتجاهه يتغير من شرقي إلى شمالي شرقي فشمالي، وهذا الانعطاف في الاتجاه العام كما يظهر على الطبيعة يصاحبه مرتفعات منفصلة بعضها عن بعض بينها مناطق منخفضة فاصلة كما تقدم ذكره.
يضاف إلى ذلك أن اتجاه تضاريسه الجبلية ليس على نمط واحد سوى جبل نمرة وجبل ستار لحيان، وأما بعده شمالاً فإن بقية الجبال تأخذ اتجاهات مختلفة ما بين شمالية إلى شمالية غربية إلى جنوبية شرقية، كما أن المناطق الفاصلة بين هذه الجبال تشقها الأودية والشعاب التي تسيل مياهها من منطقة الحرم باتجاه الشرق أو الجنوب الشرقي نحو وادي عرنة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الجبال في الحد الشرقي لا تمثّل سلسلة متصلة كما أسلفنا، بل إن بعضها يمثّل جبيلات أو جبالاً صغيرة منعزلة سوى جبل نمرة، وجبل الخطم، وجبل ستار قريش، وجبل الطارقي، وجبل ستار لحيان، وجبل الغراب الكبير.
ولعل مما يسترعي الانتباه= أن الحد الشرقي -أو بالأحرى مسار الأعلام في الحد الشرقي- يسير جزء منه بمحاذاة وادي عرنة من جبل نمرة وقرن العميرية حتى جبل الخطم. ولعله من الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أن مياه الحرم –وهي مياه الأمطار التي تتكون داخل منطقة الحرم على طول امتداد الحد الشرقي من قرن العميرية جنوبًا حتى المقرح والضربة شمالاً- تصب جميعها في مناطق الحل نحو وادي عرنة.
تبعًا لذلك جاءت مواقع الأعلام، حيث إن بعضها بُني في بعض المناطق المنخفضة كما هو حال أعلام منطقة نمرة، أو أرض نمرة (الهمدانية)، أو بُني على تلال صغيرة كما هو الحال في أرض المغمس، كما أن بعضها أُنشئ في مقدمة الجبال كما هو حال الأعلام الواقعة قبل جبل دقم الخطم.
وأخيرًا فمن الجدير بالإشارة إليه أن مسار الأعلام في الحد الشرقي يمر بمناطق عمرانية لاسيما في منطقة المغمس أو الشرائع، كما أنه يمر بمناطق زراعية.
1- مواضع أعلام الحرم يجب التقيّد بحسب ما ورد من نصوص تاريخية، وحسب ما وُجدت عليه في أماكنها الطبيعية.
2- مواضع أعلام الحرم المكي الشريف ومساراتها تقع على خط تقسيم مياه الأمطار.
3- لا يصح الربط بين مواضع الأعلام بخط مستقيم إلا في المناطق المفتوحة (مخارج مياه أمطار الحرم) حيث تعتمد قاعدة المحاذاة.
4- مياه أمطار الحرم تخرج إلى مناطق الحل، ولا تدخل مياه أمطار الحل إلى منطقة الحرم.
1- يجب مراعاة مسار الأعلام على الطبيعة (خط تقسيم مياه الأمطار).
2- يجب الرجوع إلى إحداثيات جميع الأعلام القائمة القديمة والحديثة، وجميع إحداثيات النقاط للانحرافات والزوايا الجديدة.
3- يجب عدم المساس بالأعلام القديمة بإزالتها أو البناء على أنقاضها.
4- في حال وجود الأعلام أو نقاط الربط داخل الممتلكات فإنه بالإمكان أن يستبدل بها مواضع على حواف الأرصفة للطرق والشوارع باستخدام طريقة المحاذاة.
5- الرجوع إلى أهل الخبرة المعتمدين من قبل لجنة أعلام الحرم المكي الشريف.
من المعلوم أنه لا يجوز شرعًا العبث بأعلام الحرم ولا إزالتها من مواضعها؛ لما يترتب عليه من أمور شرعية بين الحل والحرمة ومن ثم وقوع الساكنين بمنطقة الحرم أو القادمين إليها في المحظور من هذه الأحكام بسبب عدم وجود ما يدل عليها وعلى حدود الحرم، لذلك تأتي هذه المقترحات للحفاظ على تلك الأعلام والعناية بها:
1- العمل لرفع الوعي بين الناس بأهمية أعلام الحرم الشرعية للحفاظ على قدسية منطقة الحرم المكي الشريف من جهة، ولعدم الوقوع في المحظور من جهة أخرى، وكذلك توعيتهم بأهمية التعرف على تلك الأعلام ومواضعها، وعدم المساس بها، وبيان قيمتها الدينية، وتعليمهم أحكامها في المدارس والمساجد.
2- العمل لتجديد الأعلام القائمة بصورة دورية أو إعادة بناء ما تهدّم منها؛ مع الاستمرار في صيانتها.
3- إنشاء أعلام جديدة على مسار الأعلام القائمة نفسها طبقا لقاعدة خط تقسيم المياه، أو المحاذاة بإشراف الجهات المختصة وذوي الخبرة؛ لتدل الناس وترشدهم إلى مواضع هذه الأعلام وحدود الحرم.
4- إنزال مواضع أعلام الحرم على جميع الخرائط والمخططات والمصورات الفضائية الخاصة بمنطقة الحرم المكي الشريف.
5- تحديد منطقة حماية لمواضع أعلام الحرم ومسارها، لا سيما في المناطق المرتفعة، ولو بشكل يسير على جانبي المسار لبضع مترات لتمييزها ولفت الأنظار إليها.
6- وضع الأنظمة الكفيلة بحماية أعلام الحرم ومواضعها من التعدي عليها، وفرض جزاءات على المعتدين عليها أو على مواضعها أو على مسارها العام.
إن من نعم الله تعالى على المملكة العربية السعودية أن شرّفها باحتضان الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة النبوية.
وقد حقّقت في خدمة هاتين البلدتين الكريمتين المقدستين إنجازات كبرى؛ لم يشهد التاريخ مثلها من قبل على مرِّ عصوره المتوالية.
وقد امتدّت اليد الكريمة إلى العناية بحدود الحرم المكي الشريف وأعلامه الدالة على ذلك، فصدرت التوجيهات السامية بتشكيل لجنة للنظر في تلك الحدود والأعلام، وذلك برقم 707/3 وتاريخ 8/5/1412هـ بناء على قرار هيئة كبار العلماء رقم 166 وتاريخ 17/8/1410.
وكانت تلك اللجنة مكونة من التالية أسماؤهم:
1- الشيخ محمد السبيّل "رئيسًا للجنة"
2- الشيخ عبدالله المنيع "عضوًا"
3- الشيخ عبدالله البسام "عضوًا"
4- الدكتور سعود الثبيتي "عضوًا"
5- الدكتور وصي الله عباس "عضوًا"
6- الدكتور خضران الثبيتي "عضوًا"
7- الأستاذ/ حامد الحرازي "عضوًا"
8- الشيخ محسن أبو سمن "عضوًا"
وقد قامت هذه اللجنة بعد تشكيلها بالمهمة المكلفة بها بإجراء المسح الميداني وتتبع مواضع أعلام الحرم المكي الشريف على مسار حدود الحرم كاملاً، والذي لم يكن بالأمر السهل أو اليسير.
فقد كانت تلك الرحلة الميدانية مليئة بالصعاب والمشكلات، ولم يكن خروج أعضاء اللجنة في الشتاء والربيع فحسب، بل كانوا يخرجون في فصل الصيف شديد الحرارة أيضًا، وكانوا يعجبون من أولئك الرجال الذين صعدوا تلك الجبال الشاهقة وكسروا الحجارة وعدّلوها وهم يحملون الماء والنورة وبنوا تلك الأعلام، فجزى الله أولئك الرجال وأعضاء هذه اللجنة خير الجزاء.
لقد ذكر ربنا عز وجل المسجد الحرام في مواضع عدّة من كتابه الكريم، وقد دلت الآيات الواردة في بعض تلك المواضع على أن المسجد الحرام هو الحرم كله، بمعنى أن مكة بحدودها هي الحرم بأكمله، وليس مسجد الكعبة فقط.
من تلك الآيات= قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].
فمعنى {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} أي: أرض مكة كلها.
ومن تلك الآيات= قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
فالمقصود بقوله تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: من مكة المكرمة.
قصة تحريم مكة (شرفها الله) تظهر في المحاور التالية:
أولاً: يوم خلق السموات والأرض:
تحريم مكة حكم قدري، ورباني أزلي، إذ حرمها الرب سبحانه يوم خلق السماوات والأرض، كما ثبت في السنة، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم افتتح مكة: >فإن هذا بلدٌ حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة< [أخرجه البخاري (1834) واللفظ له، ومسلم (1353)].
الحكمة من تحريم مكة:
مكة –شرّفها الله- محل اجتماع الكثير من الناس لأداء فريضة الحج والعمرة، ولذا أوجب الله تعالى على عباده أن يسود هذا البلد الأمن والاستقرار والسلام، حتى يتمكن المسلمون من أداء نسكهم كاملة في طمأنينة وأمان؛ امتثالا لأمر الله تعالى الذي جعله بلدًا آمنًا؛ وحرّم فيه القتال حتى يتمكن المسلمون من أداء نسكهم في أمنٍ وأمان، وحتى تسود المحبة والإخاء لجميع المسلمين، وقد حدّده الله تعالى بأعلام، وجعل حرمته كاملة إلى حدوده وأعلامه، وذلك كي يتحقق الأمن والسيطرة على مداخل مكة؛ للحفاظ على حجاج بيته العتيق، ولله في ذلك الحكمة العليا.
ثانيًا: التحريم وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام:
أ-إعلان التحريم للعالمين:
خليل الرحمن عليه السلام أعلن التحريم في العالمين، وحوله من القدري إلى شرعي، حتى يكون تكليفيا على العباد.
-
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيم رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون} [إبراهيم: 35-37].
-
وفي السنة حكاية عن إبراهيم عليه السلام ثبت عن عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: >إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومُدِّها بمثلَي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة< [أخرجه مسلم (1360)].
فالله سبحانه وتعالى هو الذي حرّم مكة، وإبراهيم الخليل عليه السلام أعلن ذلك التحريم وأظهره ليكون معلومًا لجميع الناس.
ب-الخليل يضع حدود الحرم بأمر الله:
لتأكيد التحريم ورسوخه عند الناس لا بد أن يكون هناك حدود وأنصاب للمحرم، حتى يظهر للناس، ويعرفون له حقه وقدره. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أول من نصب أنصاب الحرم إبراهيمُ صلى الله عليه وسلم، يريه ذلك جبريل) [أخرجه الأزرقي في أخبار مكة (2/ 680)، وعبد الرزاق في المصنف (5/ 25 - 26)، والفاكهي في أخبار مكة (2/ 273)].
ثالثًا: خليل الرحمن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم:
رسولنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم يؤكد قضية التحريم بأشد ما يمكن، وفي مواقف متعددة، ويوضّح مفرداتها، حتى ترسخ لدى الناس، ويعتادون على تركها؛ تعظيما وإجلالا للبيت المحرم، يأتي ذلك في النقاط التالية:
أ- تأكيده التحريم ومفرداته:
عن أبي شُريح العَدَوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أحدثْك قولا قام به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغدَ من يوم الفتح سمعتْه أُذُناي ووعاه قلبي وأبصرتْه عيناي حين تكلم به، إنه حَمِد اللهَ وأثنى عليه ثم قال: >إن مكة حرّمها الله ولم يحرمْها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم والآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرة، فإنْ أحدٌ ترخّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم؛ وإنما أَذِن لي فيها ساعةً من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهدُ الغائب < [أخرجه البخاري (104) ومسلم (1354)].
فهذا يوم عظيم، يوم نصر وعز، يؤكد فيه على التحريم.
ب- تجديده أعلام الحرم:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث عام الفتح تميم بن أسد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم) [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (1/ 280)].
ج- حمايته للحرم، ورده على مَن أراد انتقاصه:
عن عروة بن الزبير قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فبلغ ذلك قريشًا، خرج أبو سفيان بن حرب.. فذكر قصة سير رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو مكة، وقول سعد بن عبادة لأبي سفيان: (اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة)، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا، كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة» [البخاري (4280)].
في هذا الخبر بيان عظم حرمة مكة، وشرف مكانتها، وعلو قدرها وشأنها.
وفيه: زجره عليه الصلاة والسلام لمن قال، أو فعل ما يوهم عكس ذلك، ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بالنفي فحسب، بل نعت ذلك القول بالكذب كناية عن شدة الخطأ، وبيانًا لتأثره عليه الصلاة والسلام.
د- تأكيده على بقاء التحريم إلى يوم الدين:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة" [أخرجه البخاري (1587)، ومسلم (1353) واللفظ له].
الأحكام الشرعية المرتبطة ببلد الله الحرام:
الأحكام الشرعية لها غايات ومقاصد عليا عظيمة، فهي دلائل على ما في النفوس من التعظيم والإجلال، فالأمر ليس مجرد حكم فرعي، قد ينظر له البعض بالتقليل كقطع شجرة ونحو ذلك، بل الأمر أعمق من ذلك، فهو علامة على التقدير في النفوس، مما يورث الطمأنينة في العبادة، والاستقرار النفسي، وحماية الدين والأعراض.
ومما تميّز به الحرم المكي الشريف= أن له أحكامًا اختص بها دون غيره من الأمكنة، من أبرزها:
1- تأمين الناس بعدم حمل السلاح به:
من الأحكام الفرعية التي توضح حق المسلم وحرمته في هذا البلد الحرام، فلا بد أن يُحترم الوافد إليها من أهلها، فلا يؤذى المسلم فيها دون حق يستوجب ذلك! ليس هذا فقط، بل الدين قطع كل الأسباب التي فيها مظنة ذلك؛ فمنع من حمل السلاح بلا حاجة في حرم الله! فأي حرمة وأمن كهذا؟!
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: >لا يحلّ لأحدكم أن يحمل بمكة السِّلاح< [أخرجه مسلم (1356)].
قال القاضي عياض: (وقوله: >لا يحلّ لأحدكم أن يحمل السِّلاح بمكة< هذا محمول عند أهل العلم على حمله لغير ضرورة ولا حاجة، فإن كان خوف وحاجة إليها؛ جاز) [إكمال المعلم (4/476)].
2- عدم تمكين المشركين من قربانه:
لما أراد الله أن يكون حرمه خاصا بالمسلمين، منع فيه ما قد يخدش على نفوسهم من الاختلاف الديني، فأراد من أهله الالتزام بالتوحيد والإسلام، وأراده أن يتميز بذلك، بحيث لا يعمر إلا بأهل الإسلام والإيمان وأعمالهم الطيبة.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، وإنما عنى بذلك منعَهم من دخول الحرم، لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام [جامع البيان (14/191)].
3- حماية الأموال:
لقد جاءت شريعة الله ومن مقاصدها حماية أموال الناس وقد أعلن الرسول صلّى الله عليه وسلّم للأمة هذا التحريم في أعظم مجمع في حجة الوداع فقال صلى الله عليه وسلم: >إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام.. وقد جاء في الشريعة تحريم السرقة والغصب، وأكل مال اليتيم، وغيرها من التشريعات الحافظة لأموال الناس من أن تنتهك وتستباح، وفي مكة بلد الله الحرام، أخبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن اختصاصها بأن اللقطة لا تحل فيها إلاّ لمن يعرفها طول الحياة ولا يحل له أخذها والانتفاع منها بحال، وهذا الحكم مفارق لحكم اللقطة في سائر بلاد الدنيا، فالحكم الشرعي للقطة أن يعرفها من وجدها مدة سنة، ثم إن لم يجد صاحبها يعرف أوصافها، ثم يستفيد منها ويستخدمها لنفسه فإن جاء صاحبها ردها إليه وإن لم يأت صاحبها فلا شيء عليه في استخدامها، فمفارقة البلد الحرام في هذا الحكم فيه دلالة واضحة أن التعدي على مال الغير فيها أمر عظيم جدًا.
لذلك كان الغالب أن الذي يفْقِدُ ماله بمكة بمكانٍ ما، فإنه يجده بذلك المكان، لا يكاد يَعْرِضُ إليه أحد.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: >إنّ الله حرّم مكة فلم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي، وإنما أُحِلّت لي ساعة من نهار لا يختلى [أي: لا يقطع] خلاها [أي: نباتها الرَّطب]، ولا يعضد [أي: لا يقطع] شجرها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرّف< [أخرجه البخاري (1833) واللفظ له، ومسلم (1353)].
عن عبد الرحمن بن عثمان التميمي رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن لقطة الحاج [أخرجه مسلم (1724)].
ولذلك حين أراد الوليد بن سعد بن الأخرم أن يلتقط دينارًا ذهبيًا وجده ملقًى بالحرم، ضرب على يده عبد الله بن عمر، وأمره بتركه. لأن صاحبه قد يعود إليه فيجده حيث هو [أخبار مكة للفاكهي (3/47)].
وإذا كان الناس يأْمنون بمكة على أموالهم الضائعة التي يفقدونها، فكيف بحرمة أموالهم المحروزة المصانة المحفوظة، لا شكّ أن تلك حرمتها أعظم.
4- حماية الحيوان، والشجر:
الصيد في كل البلاد حلال لمن أراد الإفادة منه إلا المحرِم فإنه لا يجوز له الصيد مادام محرِمًا حتى يترك إحرامه وأما في مكة فإن الصيد آمن فيها فلا يجوز صيده لا من المحرِم ولا من الحلال غير المحرِم، بل جاء المنع من تنفيره إخبار بالأدنى ليكون منع قتله بطريق الأولى فلا يجوز في مكة إخافة الصيد ولا الاحتيال على قتله، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن صيد الحرم حرام على الحلال والحرام [الإجماع (68)].
وبمثل حكم الصيد دلت الأحاديث على تحريم قطع شجر الحرم ونباته ولو كان شوكًا غير الإذخر، وذلك مما أنبته الله تعالى من غير ما زرعه الناس، أما ما زرعه الناس في مكة فاختلف العلماء في حلّ قطعه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: >إنّ الله حرم مكة، فلم تحلَّ لأحد قبلي، ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، وإنما أحلت لي ساعةً من نهارٍ، لا يُختلى خلاها، ولا يُعضد شجرها، ولا يُنفَّر صيدها، ولا تُلتقط لُقَطتها إلا لمعرِّف.
قال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر لِصاغتِنا وقبورنا. فقال: >إلاّ الإذخر< [أخرجه البخاري (1833) واللفظ له، ومسلم (1353)].
قال الفاسي: (اقتضت هذه الأحاديث أمورًا، منها: منع اختلاء خلاء مكة. ومنها: منع عضد شجر مكة، أي: قطعها. ومنها: منع تنفير صيد مكة، أي: لا يصاح عليه فينفر، ومنع اصطياد صيد مكة. ومنها: أن لقطتها لا تملك) [شفاء الغرام (1/142-143)].
5- النهي عن الإلحاد فيه:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم} [الحج:25].
في هذه الآية الكريمة نهى الله سبحانه عن إرادة الإلحاد في الحرم، وأصل الإلحاد في اللغة: الميل والعدول عن القصد، والملحد هو: المائل عن الحق، ولحد في الدين يلحد وألحد. مال وعدل [انظر لسان العرب (3/388)، وفتح الباري (12/210)]، وأما المقصود بالإلحاد في هذه الآية فقد تعددت الأقوال فيها بين الشرك والقتل واستحلال محظورات الإحرام، والاحتكار وظلم الخادم.
والذي عليه أهل التحقيق من المفسرين أن الأمر عام يشمل كل معصية لله عز وجل لأن الله تعالى عمم بقوله {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم}، ولم يخصص به ظلم دون ظلم فيدخل في ذلك كل ما ذكر من الأقوال السابقة، قال ابن عطية: والإلحاد: الميل وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعّد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا في مكة، هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم.
وقال الرازي في التفسير بعد ذكر عدد من الأقوال في معنى الإلحاد، قال: (وثامنها: وهو قول المحققين: إن الإلحاد بظلم عام في كل المعاصي لأن كل ذلك صغر أم كبر يكون هناك أعظم منه في سائر البقاع. حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: لو أن رجلاً بعدن هم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذابًا أليمًا) [تفسير الرازي (23/ 218)].
وقال الألوسي: (قوله تعالى (بإلحاد) أي عدول عن القصد أي الاستقامة المعنوية. وقال: وتفسير الإلحاد لما ذكر هو ظاهر فيشمل سائر الآثام لأن حاصل معناه الميل عن الحق إلى الباطل وهو محقق في جميع الآثام [تفسير الألوسي (9/ 134)].
فإذا تبين لك أن الإلحاد أمر عام في جميع المعاصي والآثام فاعلم أن الله توعّد بالعذاب الأليم من أراد ذلك في الحرم، أما من فعل فالأمر أعظم. عن أبي عباس رضي الله عنهما أن النّبي صلى لله عليه وسلم قال: >أبغض النّاس إلى الله ثلاثة ملحد في حرم الله ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطّلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه< [رواه البخاري (6882)].
وقال ابن سعدي عند قوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم}: وفي هذه الآية الكريمة وجوب احترام الحرم، وشدّة تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها [تفسير السعدي (ص: 536)].
توقّف بقاء خيرية هذه الأمة على تعظيم حرمة البلد الحرام:
لقد جاء النصّ النبويّ يبين أن بقاء خيرية هذه الأمة متوقّف على تعظيم حرمة البلد الحرام، فعن عيّاش بن أبي ربيعة رضي الله عنه، قال: سمعت النّبي صلى الله عليه وسلم يقول: >لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها، فإذا تركوها وضيعوها هلكوا< [رواه أحمد، وحسنه الحافظ ابن حجر].
مواقف الصالحين وأهل الفضل مع الحدود تعظيمًا وإجلالاً:
للصالحين وأهل الفضل من السلف والخلف عدة أقوال ومواقف في تعظيم هذه القضية، وإشاعتها وتقدير حقها في التحريم والإجلال، من ذلك ما يلي:
1- دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكةَ وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه اللهُ به من الفتح، حتى إنَّ ذِقْنَه ليكادُ يَمَسُّ واسطةَ الرَّحْلِ [أخرجه البخاري (4281)].
2- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أهل مكة، اتقوا الله في حرم الله، أتدرون من كان ساكن هذا البيت ؟ كان به بنو فلان فأحلوا حَرمه فأهلكوا، وكان به بنو فلان فأحلوا حَرَمَه فأهلكوا، حتى ذكر ما شاء الله من قبائل العرب أن يذكر، ثم قال: لأن أعمل عشر خطايا في غيره أحبّ إليّ من أن أعمل ههنا خطيئة واحدة [رواه ابن أبي شيبة في المصنف (4/352)، والفاكهي في أخبار مكة (2/266)].
3- عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبصر رجلا يعضد على بعير له في الحرم فقال له: يا عبدالله، إن هذا حرم الله، لا ينبغي لك أن تصنع فيه هذا. فقال الرجل: إني لم أعلم يا أمير المؤمنين. فسكت عمر عنه [أخبار مكة للأزرقي (2/ 143)].
4- كان ابن عمر رضي الله عنهما يغشاه الحمام على رحله وطعامه وثيابه ما يطرده [أخبار مكة للأزرقي (2/145)].
5- قول ابن عمر رضي الله عنهما: لو وجدت فيه قاتلَ عمر ما بدهتُه [رواه عبد الرزاق في المصنف (5/ 153)، والأزرقي في تاريخ مكة (2/ 139)] [ومعنى بدهته: زجرته بالصياح].
6- قول سليمان بن طرخان التيمي: إن مجاهدًا وابن عمر رضي الله عنهما كانا يطوفان بالبيت، فوجدا حُقَّةً فيها جوهر، فلم يَعْرِضا له [مصنف ابن أبي شيبة (5/194)].
7- عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال عبد الله بن عمرو: يا أهل مكة انظروا ما تعملون فيها، فإنها ستخبر عنكم يوم القيامة بما تعملون فيها [أخبار مكة للفاكهي (2/ 269)].
8- قول مجاهد: رأيت عبد الله بن عمرو بن العاص بعرفة ومنزله في الحل، ومصلاه في الحرم، فقيل له: لِمَ تفعل هذا؟ فقال: لأن العمل فيه أفضل، والخطيئة أعظم فيه [رواه الأزرقي في أخبار مكة (2/288)، والفاكهي (2/288)].
9- كان مجاهد يُذكِّر أهل مكة بقوله: إذا دخلت الحرم؛ فلا تَدفعنَّ أحدًا، ولا تُؤذينّ، ولا تُزاحم [أخبار مكة للفاكهي (2/259)].
10- قال إبراهيم بن سعيد السهمي: أُتي بي إلى عطاء وأنا غلام، فقالوا: إن هذا يأخذ الجراد من الحرم [أخبار مكة للفاكهي (3/373)].
11- حين أراد الوليد بن سعد بن الأخرم أن يلتقط دينارًا ذهبيًا وجده ملقًى بالحرم، ضرب على يده عبد الله بن عمر، وأمره بتركه. لأن صاحبه قد يعود إليه فيجده حيث هو [أخبار مكة للفاكهي (3/47)].
12- قال أبو عمر الزّجاجي: من جاور بالحرم وقلبه متعلق بشيء سوى الله تعالى فقد ظهر خسرانه [شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (1/ 175)].
13- قال محمد بن أحمد بن الضياء: ينبغي لكل من هو بمكة من أهلها والمجاورين بها من الحجاج والزوار أن يقدروا قدرها، ويعظموا حرمتها وحرمة البيت، ويلاحظ سرّها، ويتأمل فضيلتها، ويستقيم ما أصبح به من نعمة جوار هذا البيت، ويشكر القيام بحقِّه، ويجتنب كثيرًا من المباحات التي لا يليق عن حِل لقطها، ويُنَزَّه عن اللهو واللعب والترفهات التي لا خير فيها، فإنها بلدُ عبادةٍ، لا بلد رفاهة، ومكان اجتهاد، لا مكان راحة، ومحل تيقظ وفكرة، لا محل سهو وغفلة [البحر العميق (1/141-142)].
هذا ولم يكن تعظيم بلد الله الحرام ومراعاة حرماته مقتصرًا على أسلافنا الكرام، فقد ذكر لنا التاريخ أن هناك من كانوا يعظّمون هذا البلد ويراعون حرماته حتى قبل الإسلام، من ذلك:
1- ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: حجّ الحواريون، فلما بلغوا الحرم مشوا تعظيما للحرم [ شفاء الغرام (1/ 152-153)].
2- قول الحسن البصري وغيره: كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول فلا يهيّجه حتى يخرج [تفسير ابن كثير (1|385)].
3- قول ابن جريج: كان الرجل يلقى قاتل أخيه أو ابنه في الكعبة، أو في الحرم، أو في الشهر الحرام فلا يعرض له [شفاء الغرام (1/ 152 - 153)].
المراجع:
-أعلام وحدود الحرم المكي الشريف - د.خضران ، د.سعود الثبيتي.
-الحرم المكي والأعلام المحيطة به - عبدالملك بن دهيش.
-التفسير اللغوي لأسماء مكة المكرمة - د.رياض الخوّام.