تَشْترِكُ خُطَبُ رسول الله صَلّى الله عليه وسلّم الثلاث في حجّة الوداع في التأكيد على حُرْمةِ الأشهر الحرم ويوم النحر والبلد المعظّم. والخطب الثلاث هي خطبةُ يوم عرفة، وخطبةُ يوم النحر بمنى، وخطبةُ أوسط أيّام التشريق بمنى.
كما أنّها تشترك في افتتاحه واستهلاله صَلّى الله عليه وسلَّم لها بالتأكيد على معنى التحريم والتعظيم للزمان ( الأشهر الحرم) والمكان ( البلد الحرام).والأمر المختلف الوحيد هو الأسلوب، إذ أنّه استعمل التأكيد والتقرير حينا والصيغة الإستفهامية ليشفعها بالتقرير حينًا آخر.
وهذه الخطب كانت في سياق حجّة الوداع التي أعلن فيها الله عزَّ وجلَّ إكمال الدين الذي رَضَي به للناس ( الإسلام) وإتمام النعمة. كما أنّها جاءت ورسولنا محمّد صَلّى الله عليه وسلّم يخشى ألاّ يلقى عموم المسلمين بعد عامهم هذا.
فكانت خطبه أشبه ما تكون بالوصايا. وللوصايا النبويّة أهمّية خاصة لأنَّ فيها جوامع المعتقدات والأحكام والتوجيهات لتسير عليها أمّة الإسلام مابقيت الأرض التي خلقها الله واستعمرنا فيها، هذه الأرض التي اصطفى منها الله البلد الحرام التي استهلّ صَلّى الله عليه وسلّم خطبه بالتأكيد- والتذكير – على حرمتها وتعظيمها.
والمُلاَحَظُ أنّه صَلّى الله عليه وسلّم شبّه مسائل جليلة وعظيمة في حياة الناس بحرْمتي الزمان والمكان المذكورين.ومَرَدُّ التشبيه هو أنّ حرمة المسائل التي سنذكرها أبديّة وليست ظرفيه على غرار حرمة الأشهر الحرم وبلد الله الحرام وبيته المعظّم.
فالبلد المعظّم والأشهر الحرم حكمهما باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن ينتمي إلى دائرة الإسلام الذي أكمله الله ويريد أن يكون مشمولاً بالنعمة التي أتمّها أنْ يعتقد بهذه الحرمة وأن يُدرك مايترّتب عنها وأن يلتزم بمقتضياتها. وهكذا، فإنَّ تعظيم البلد الحرام والأشهر الحرم ميزانٌ للإيمان.
والمتأمّل في الخطب الثلاث يقف على أنَّ حرمة المكان والزمان المذكورين كانا مقياسًا ومعيارًا يُدرك به عموم المسلمين حُرْمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم. فكما أنّ البلد المعظّمَ مُحرَّمٌ أبد الدهر، فإنّ حرمة الأموال والدماء والأعراض محرّمة بشكل أبديّ إلى أن نصل مرحلة ” ألاَّ يُحَجّّ البيت”، أي عندما تقوم الساعة.
إنّ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرّمة حرمة أبدية كما حرّم الله الأشهر الحرم والبلد المعظّم. فالأموال والدماء والأعراض أمانة يجب حفظها، وحفظها ألزم وأوكد في بلده المحرّم.
واستهلال رسولنا صَلّى الله عليه وسلّم خطبه التوديعية الثلاث بالتأكيد على حرمة البلد المعظّم حرمةً أبدية وكذلك الأشهر الحرم وتشبيه حرمة الأموال والدماء والأعراض بها، تأكيدٌ على أنّ الإيمان بحرمة البلد والأشهر المذكورة ميزانٌ للإيمان ومعيارٌ للعمل ليس في مايخُص موضع التشبيه فقط أي الأموال والدماء والأعراض، وإنَّما كذلك باقي القضايا والمسائل الواردة بعد الإستهلال أو الإفتتاح التأطيري.
ومن بين تلك القضايا الربا، والثأر، وتحميل العائلة أو القبيلة وغيرهما وزر أعمال فرد منها، وطريقة معاملة النساء، والإلتزام بكتاب الله ومايقتضيه من التزام بسُنّة نبيّه صَلّى الله عليه وسلّم، والوصيّة بالتقوى وإقامة الصلاة والصوم، والأمر بحمْل العلم لمن لم يحضره فقد يكون الغائب أوْعى من الحاضر، والتحذير من طاعة الشيطان.