قال الفقيه والأديب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله -واصفًا أثر الحرم في نفس المسلم-: (كنت في مصر، من بضع سنين، وكانت في الجامعة بعثة من الطلاب تستعدّ لتمضي إلى الحج، فعلق بها طالب يعرفه إخوانه شيوعيًا خبيثًا حربًا على الإسلام وأهله، فأبوا عليه الصحبة، وألحّ هو راغبًا فيها، فخبّرني بذلك أستاذ في الجامعة فقلت له: أنا أرى أن تأخذوه معكم، فلعلّ الله قد أذن بصلاحه فبعث هذه الرغبة في نفسه.
فاستبعد ذلك، وأخذ برأيي وصحبوه، ولما رجعوا، ولقيت هذا الأستاذ قال لي: لقد كان ما قدَّرت، ولكنه كان شيئًا عجيبًا، دهش له كل من كان معنا، حتى الطالب نفسه، فإننا ما إن بلغنا حدود الحرم ونزعنا ثيابنا؛ حتى تبدل نفسًا بنفس، كأنما نزع مع الثياب دنياه كلها من قلبه، وأفكار السوء من رأسه، وترك الباطل الذي كان يحيا فيه، وعاد الفتى المؤمن يجهر بالتلبية أكثر من جهرنا، ويخشع لها أشدّ من خشوعنا، فحسبنا ذلك تظاهرًا منه لنا، وتزلفًا إلينا، حتى إذا بلغنا باب الحرم، وبدت لنا الكعبة، غلبت عليه حال يستحيل أن تكون تصنعًا وتمثيلاً، وراح يبكي وينشج؛ حتى لقد أبكانا، ثم كان أكثرنا طوافًا وصلاة واستغراقًا في العبادة، قلت -أي الطنطاوي-: هذا أثر الحرم في نفس المسلم، وهل في أماني المسلم أكبر من أن يرى تلك المشاهد ويقف بتلك الأعتاب؟! فما مسلم يطوف حول الكعبة إلا أحسّ أن وطنه الحق ها هنا .. ).