مرّ معنا -في المقال السابق- ذكر طرفٍ مما كان يلاقيه المسلمون المستضعفون على يد كفار قريش من تعذيب واضطهاد، في انتهاكٍ صارخ من قبل المشركين لحرمة بلد الله الحرام ؛ ودون أدنى مراعاة لمكانته وخصائصه التي تميّزه عن سائر بلاد الدنيا؛ من كونه بلدًا آمنًا؛ ليس للإنسان فحسب، ولكن للإنسان والحيوان والطيور والنبات، ففي رحابه يأمن الخائف، وفي كنفه يأنس المستوحش، وبين جنبيه يجد الحائر السكينة.
وإننا لنحمد الله -عز وجل- أن أعاد للبلد الأمين حرمته، وردّ على أهله السكينة والاطمئنان والأمان، فأصبحوا يتمكّنون -في ظل أمنه الوارف- من أداء عبادتهم وإقامة شعائر دينهم في أمن وأمان بكل حريّة، على عكس ما كان عليه الحال في الزمن الأول، فلله في ذلك الحمد والفضل والمنّة، وجزى الله حكومة بلاد الحرمين كل خير على ما تبذله -في عصرنا الحاضر- من جهودٍ في سبيل تأمين أهل البلد الأمين وقاصدي بيت الله الحرام.
لما اشتدّ الأذى على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كان لا بد من التفكير في إيجاد مكان بديل يتمكّنون فيه من إقامة شعائر دينهم في أمن وأمان بكل حريّة، فأشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم -في بادئ الأمر- بالهجرة إلى الحبشة؛ حتى يجعل الله لهم فرجا مما هم فيه.
قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى: ودعاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ما هو أشدّ من هذا كله، إلى فراق الوطن، وترك الأهل، وأن يمشوا فرارا بدينهم إلى بلاد ليسوا منها، وليست منهم، ولا لسانها لسانهم، ولا دينها دينهم، إلى الحبشة، فخرجوا من منازلهم وهجروا أهليهم، ومشوا إلى الحبشة، فلحقهم أذى قريش إلى الحبشة، وأوغلتْ قريش في كفرها وصدّها وعنادها، ولكن هل تقدر قريش أن تطفئ نور الله تعالى؟![انظر كتاب رجال من التاريخ].
وعلى إثر أنباء وأخبار -غير صحيحة- ترامت إلى مهاجرة الحبشة تفيد بأن أهل مكة أسلموا= خرج المهاجرون من الحبشة راجعين إلى مكة، حتى إذا كانوا على مقربةٍ منها تبينت لهم الحقيقة، فرجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيا، أو في جوار رجل من قريش.
هنا عادت قريش إلى ما كانت عليه من التنكيل والاضطهاد كأشدّ ما كانت، وأغرت سائر القبائل بمضاعفة الأذى للمسلمين، فسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدا، حتى اشتد عليهم البلاء، فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أصاب أصحابه رضي الله عنهم من البلاء لم يجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدا من أن يشير إليهم بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى، وكانت هذه الهجرة الثانية أشقّ من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسّر الله لهم السفر فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يُدركوا.
وللحديث بقية..في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
الباحث بمشروع تعظيم البلد الحرام