من خصائص البلد الذي حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض وعظّمه وأمر بتعظيمه، أنّه بلدٌ مباركٌ لقوله عزَّ وجلّ ” إنّ أوّل بيت وُضِع للناس للذي ببَكَّة مباركًا وهدى للعالمين ” (آل عمران، ٩٦).
وهذه البركة تشمل كلّ البلد المضبوطة حدوده بالأعلام التي وضعها الخليل إبراهيم عليه السلام بتعريف من جبريل عليه السلام وأمر بتجديدها نبيّنا محمد صَلّى الله عليه وسلّم، ويبلغ عددها ١١٠٤ أعلام.
وللبركة في اللغة العربيّة معنيان، الأوّل النماء والزيادة، والثاني الثبات والديمومة. ففي البلد الحرام أمورٌ تنمو وتزداد ويكون فيها خيرٌ للناس، وأشياء تثبتُ وتدومُ ويكون فيها خيرٌ للناس.
أمّا النماء والزيادة، فهْو في الأعمال الشرعية والعبادات من خلال مضاعفة أجر الصلاة فيه مثلًا، وهذا من البركة. ففرقٌ كبير ببن من أدّى صلاةً واحدة داخل الحرم وبين من أدّاها خارجه. ولأنّ البلد مبارك تعادل الصلاة فيه في الأجر من صَلَّى مائة ألف صلاة خارجه.
وينسحب فضل المضاعفة في الأجر لبركة البلد الحرام على سائر الأعمال. لكن بين العلماء خلاف، هل أنّ مضاعفة أجر سائر الأعمال بمائة ألف أم أنّ الأجور مضاعفة ولا نعلم بِكَمْ؟ على قولين لأهل العلم. والثابت عندهم جميعًا أنّهم يُقرّرون أنّ الأعمال في البلد المعظَّم والمحرَّم أفضل من غيره ببركة المكان.
و البركة تشمل كذلك الأمور غير العبادية، أيْ معاش الناس وحياتهم. والله عزّ وجلّ أخبر أنّه تفضَّل على قريش بأنّه أطعمهم من جوع. فهذا بلدٌ لا زرْعَ فيه، والله جبى الثمرات من كلّ مكان إلى هذا المكان المبارك. وتوفّر الثمرات لبركة مكّة أمر مؤكّد في كلّ الأزمان منذ دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام، وتشهد به كتب المؤرخين في كلّ الحقب، وليس مقصورًا على زمننا.
ومن معاني النماء والزيادة البركة في الرزق. ودليله ما أشار إليه النبي محمّد صَلّى الله عليه وسلّم ،وما اختّصت به مكّة على سائر بلاد الدنيا، حول دعوة إبراهيم وهي بركة ومعجزة في ذات الوقت.
فقد جاء في حديث ابن عبّاس في رواية البخاري ماثبت من دعوة إبراهيم عليه السلام كما قال رسول الله محمد صَلَّى الله عليه وسلّم” فقال- أي إبراهيم-اللهم بارك لهم في اللحم والماء ” ، وأضاف صَلَّى الله عليه وسلّم “فهما لا يخلو عليهما أحدٌ بغير مكّة إلاّ لم يوافقاه”، أي أنّه في مكّة لا يصاب من اقتصر طعامه على اللحم والماء بضرر، عكس الأماكن الأخرى في كلّ بقاع الأرض، إذا اقتصر فيهما غذاء المرء على اللحم والماء فسيلحقه ضرر لا محالة.
أمّا بركة الثبات والديمومة فنجدها في ما تميّز به هذا البلد المُعظّم في باب العبادات. هذا المكان لا تنقطع فيه العبادة، فالطواف دائمٌ في الليل والنهار، والرسول محمّد صَلَّى الله عليه وسلّم قال : ” يابني عبدمناف لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلّى ساعة من ليل أو النهار” ، وهذا من استمرارية العبادة في هذا البلد الحرام. ونفس الشيء بالنسبة إلى استمرارية نسك الحج والصلاة، وهذا من البركة.
ومن بركة الثبات والديمومة بقاء الناس في البلد الحرام على الإسلام إلى يوم القيامة، وأنّهم لا يرتدُّون كفَّارًا بعد إسلامهم. واستخرج العلماء هذا المعنى من قول النبي صَلَّى الله عليه وسلّم عندما فتح مكّة :” لا تُغـزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة “، وفي رواية ” لا تُغـزى مكّة بعد هذا العام أبدًا “.
وذهب أهل العلم في تفسير الحديث إلى تفسيرين كلاهما صحيح، لا تُغـزى بمعنى لا يغزوها الإسلام لأنّ أهلها ارتدّوا كُفّارًا فيُضطرّ المسلمون لإعادة فتحها كما فتحها الرسول، فهذا لا يكون. ومن البركة أن يبقى أهلها على الإسلام.
والمعنى الثاني، لا تُغـزى من كافر إلى يوم القيامة، لتبقى دار إسلام إلى يوم القيامة.
ومن الثبات والديمومة بقاء هذا البيت بحفظ الله إلى قيام الساعة. قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلّم: ” لا تقوم الساعة حتّى لا يُحجَّ البيت”. وذلك من آيات البلد المبارك وعلاماته.