الحجُّ في أحد وجوهه العظيمة ومقاصده السامية تذكيرٌ بسِيَرِ الأنبياء وحال الرسّل عليهم صلوات الله وسلامه من أجل الإقتداء بهم والسيـر على خطاهُم، إبتداءً بالخليل إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وصولاً إلى خاتم الأنبياء والمرسلين الخليل محمّد صَلّى الله عليه وسلّم.
وهو مليء بالمواقف والشعائر والمشاعر التي تُذكِّرُ زائري بيت الله الحرام وبلده المعظّم منذ خَلـق السماوات والأرض بأنبياء الله الذين قال عنهم عزّ وجلّ في محكم تنزيله : ” أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده “( الأنعام،90). ففي كلّ مكان نتنقّل نستشعر أنّنا نضع أقدامنا على مواطئ أقدام من اصطفاهم الله واختارهم لإبلاغ الرسالة.
وهكذا فإنّ الحاجَّ الذي يتنقّلُ من مشعر إلى مشعر ومن منسك إلى منسك في أرض اصطفاها الله وعظّمها، يُدرِك بأنّ لذلك الاصطفاء الربّاني مسائل تترتّب عنها، فيبذل تبعا لذلك مافي الوسع لتطهير النفس والحفاظ على طهارة المكان ولإجلال الله وتعظيمه وتعظيم المكان الذي عظّمه وحرّمه.
والحاجّ مدعوّ، في نفس الوقت، للإقتداء بالأنبياء والسيْر على خطاهم وفي مقدّمتهم الخليلين إبراهيم عليه السلام ومحمّد صَلّى الله عليه وسلّم. فالخليلان عظّما مكّة بحدودها التوقيفية وطهّرا البيت المحرّم وباقي البلد الحرام من كلّ الأصنام والأوثان والمستقذرات الماديّة والمعنوية وأنتجا نموذجين بشرِيَيْن للإقتداء، وماعلى الحاجِّ، وعموم المسلمين، إلاّ السيْر على خطى سُنّتهما.
– فعندما تطوف بأوّل بيت وُضِع للناس أو تستقبله للصلاة، فإنّك تَذْكُرُ أنّ اللذين قاما على البناء هما خليل الرحمن إبراهيم وإبنه إسماعيل عليهما السلام(“وإذْ يرفَعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربَّنا تَقَبَّل منَّا ” البقرة،127). وأنّهما امتثلا لعهد الرحمان بأن يُطهّراه ( ” وعَهِدْنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أنْ طهِّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرُكّع السجود” البقرة 125 ).
والحاج مطالب بالحفاظ على بيت الله الحرام وحفظه وتطهيره واستشعار المسؤولية في ذلك بالوفاء بالعهد شعوريا ونفسيّا والإلتزام به وتنفيذه واقعيًّا وعمليّا. وفي ذلك سير على خطى سنّة الخليل إبراهيم أوّل المسلمين وسنّة خاتم النبيّين محمّد صَلّى الله عليه وسلّم الذي أكمل الله به نعمة الإسلام وأتمّها.
– وإذا انتهيتَ من الطواف اتّخذت من مقام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مصلّى ( ” واتّخذوا من مقام إبراهيم مُصلّى ” البقرة، 125 ).
– وإذا شربتَ من زمزم وسعيـتَ بين الصفا والمروةَ تذكّرْتَ تلك المرأة المؤمنة الصالحة المتوكّلة التي ردّت على زوجها الخليل إبراهيم عليه السلام الذي أخبرها بأنّ الله أمره بأنْ يتركها مع ابنها الوليد إسماعيل عليه السلام بوادي لاضرْعَ فيه ولا زرْعَ ولا أنيسَ بالقوْلِ : “إنّه لن يُضيِّعنا”.
فأقصى مراتب الشعور بالأمن يأتي من التوكّل على الله والثقة به والإقبال على تنفيذ أوامره طوْعا والإنتهاء عن نواهيه تعظيما له وخِشيةً منه. فالمرأة ورضيعها في وادي غير ذي زرع ولا أنيس لهما من البشر وإعتداءاتهم المحتملة ومن الوحوش و مخاطرَهم المفترضة، إلاّ الله الذي يُؤمِّن عباده من خوف ويطعمهم من جوع.
والسيـر على خطى سنّة الخليلين ليس روايةً لقصّة وإنّما إقتداءٌ بالعبرة ،وتصحيحٌ للمفاهيم،وثِقَةٌ بأنّ الأمـْن حصادٌ لتعظيم الشعائر والحرمات.
– وإذا شربتَ من ماء زمزم، تذكّرتَ أنّ جزاء صلاح المرأة هاجر وإطاعةِ ربّها ورضاها بقَدَرِه والإمتثال لزوجها الخليل ابراهيم الذي بلّغها أمر الله، هديّةً استمرّ عطاؤها آلاف السنين ولن تزول إلاّ بزوال الحياة الدنيا. ومع كلّ جرعةٍ تقف على دليل حسّي على خصيصة البركة لبلد الله الحرام، علاوة على فضل الإستجابة لدعاء من شربه.
– وإذا رميْتَ الجمرات تذكّرت رمْي إبراهيم عليه السلام الشيطان بسبع حصيّات في الجمرات الثلاث. وفي ذلك تذكير بأنّ الشيطان للإنسان عدوًّا وعليه ألاّ ينسى ذلك، فتبليس إبليس ومغالطاته وإغوائه لن تنقطع. والخليلان المبلّغان لدين الله الإسلام دأبا على محاربة إبليس وجنوده تماثيل كانوا أو أشخاصًا أو مفاهيم ومصطلحات، وذلك وجه من وجوه سنّة الخليلين، ونحن مطالبون بالسير على خطاهما.
– وعند الذبح تستشعر قول إسماعيل عليه السلام لأبيه ( ” يا أبتِ افْعَل ما تؤمر ستجدني إن شاءَ الله من الصابرين” الصافات، 122 ). فترك الأمّ والرضيع في واد غير ذي زرع والقبول بذبح الإبن إمْتِثالٌ للأوامر الربّانيّة، وهذا الإستسلام لأمر الله سنّة إبراهيمية، والحاجّ مدعوّ إلى الإقتداء بسنّة الإستسلام لأوامر الله ونواهيه.
– والحجّ في مجمله سيْر على سنّة رسولنا محمّد صَلّى الله عليه وسلّم الذي أمرنا بأن نأخذ عنه المناسك. وهذه المناسك المتطابقة مع ما بلّغه الخليل إبراهيم، ليكون الحجّ في جوهره سيـْرًا على خطى الخليلين.