هاجر: القسم النّسائي في مشروع تعظيم البلد الحرام بمكة المكرّمة
رغم رمزية هذا الاسم، ورغم كلّ ما أحدثه هذا الاختيار الرّائع كاسمٍ ووصفٍ لهذا القسم في نفس كلّ من زاره أو عمل معه منذ التّأسيس؛ إلاّ أنّه سرعانَ ما عادتْ بنا الذّاكرة التاريخية الدّينيّة إلى أمّهات الأنبياء عند العرب وعند بني إسرائيل؛ وكأنّنا نرى دور الأمّهات في حيوات بعضِ رُسل الرّسالات السّماوية الكُبرى، فتذكّرنا إسماعيلَ عليه السلام ومحمدًا صلّى الله عليه وسلّم من أنبياء العرب، وخطر في بالنا موسى وعيسى عليهما الصلاة والسّلام من أنبياء بني إسرائيل ...
عُهِدَ بأُولي العزم من الرّسل هؤلاء في طفولتهم إلى أمّهاتهِنّ وحدَهنَّ في التّربية والتّنشئةِ والعطف والحنان، بل وفي تعويضهم فَقْد الأب ورعايتِهِ وحنانه فترة غيابِهِ أو عدم وجودِهِ.
مَن منّا لا يعرِف أمومةِ هاجر أمّ نبيّ الله إسماعيل! التي نذكرها كلّما مرّت بنا حالةٌ من الخوف والرّجاء، ومن منّا لم يقرأ سبع آياتٍ من سورة القصص، وخمساً من سورة طه تخصّ بالذّكرِ أمّ موسى، موكلاً ربّها تعالى إليها حمايتِهِ بإلقائِهِ في نهر النّيل لِيصبح فؤادها فارغاً من قلبها، ثم أمرها برعايتِهِ وتنشِئتِهِ بعد أن ردّهُ الله إليها وقرّت عينها، وذهبَ حَزَنُها !
ثم مَن منّا لم تدمع عيناهُ على مريم عليها السلام بعد أن تعرّضت لأقسى ما يمكن أن تتعرّض له أنثى، وأخذت وليدها إلى النّاصرة لتعيشَ له ومن أجلِهِ بأمر ربّها، حتى غدت هي وابنها آيةً للعالمين.
وتختمُ آمنةُ بنت وهبٍ - زهرةُ قريشٍ اليانعة، وبنتُ سيّد بني زُهرة، التي ظلّت في خدرِها محجّبة عن العيون، وكانت - عندما خطبها عبدالله بن عبدالمطّلب – أفضل امرأةٍ في قريشٍ نسباً وموضعاً، تختمُ آمنة الموكب التاريخي المَهيب لأمهات الأنبياء، لترعى حياةِ نبيّ الرحمة والإنسانية في سِنيّهِ الأولى، وتوكِلَ بعضها إلى راضعتِه السّعدية.
إنّ هاجرَ هذه – اليومَ - وُجِدَتْ لتكونَ لَبِنةً في ركب الدّعاء الخالد، لبّيكَ اللهمّ لبيك ؛ ليتردّدَ صداهُ في نفوس الطّاهرات من نساءِ مكةَ والعواتِقِ من بناتها، يستلهمْنَ القدوةَ من سير أمّهات الأنبياء والرّسل وزوجاتهم وأخواتهم وبناتِهم، ويُحقّقن حديث المصطفى عليه السلام في المرأة المكّية: ((خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الِإبِلَ صالِحُو نِساءِ قرَيْشٍ، أَحْناهُ على وَلَدٍ في صِغَرِهِ، وأرْعاهُ على زَوْجٍ في ذاتِ يَدِهِ)) [رواه الشيخان]، ويُواصِلْنَ كتابة تاريخ الأسرة المكّيّة العريق مع بنات جنسِهِنّ
إنّ المرأة المكّيّة ما شانَها الجهلُ بالإسلام وتعالِيمِه، ولا الغفلةُ عن قضايا مواسم مكة وأزمنتها، والإسهامُ فيها بإيجابيّة وفاعليّة، ولم يكتب التاريخ عنها أنّها قصّرت في صلاةٍ أو صيامٍ أو صدقةٍ! ونسوةُ مكةَ لم يعجَزْنَ عن خدمة أنفسهنّ، ولا أولادهنّ، ولا رجالهنّ..
منذ رسول الله إسماعيل عليه السلام، والمرأة المكّيّة تأخذُ دورَها في الحياة بإيجابيةٍ وفاعليَة، أمّاً كانت أم زوجةً أم أختاً أم بنتاً؛ عدا حِقَبٍ زمنيّة مكّيةٍ قبل بعثةِ النّبي عليه الصلاة والسلام أُنسي النّاس فيها تعاليم دينهم الحنيف واتّبعوا ما تتلوا الشياطين عليهم، وصدّق فيهم إبليسُ ظنّهُ فاتّبعوه، فمكرَ بعض رجالات جزيرة العرب الخُبثاء بالمرأة، لِذبحِ شرفِها أو وأدِها، فأهانَ إبليس نساءَ الجزيرة كلّهنّ؛ بل ونساء العالم بأسرِهِ، حتى كان الرّجل في بعض نواحي الحجاز – ومنها مكة – يتجهّمُ لمولد الأنثى، ويسْودُّ وجهُهُ لمقدَمِها .
كان المجتمع المكّي الجاهلي الباذخُ في غناه وتجارته مُتأزَماً في تصوّره وعقيدتِه، ومتأزّما في علاقاته الاجتماعية، ومتأزّماً في بناء حضارته؛ رغم قداسةِ المكان وجلالتِهِ، حينئذٍ أذن الله - تعالى – ببعثةِ وظهور محمّد صلى الله عليه وسلم من ذات المجتمع ومن أشرف قبائله، وظهر بظهوره الصّدق في التّعامل، وحبّ الغير، والرّحمة التي غابت عن قريشٍ كثيراً .
استشعرت المرأةُ المكّيّة هذا الصّدق النّبوي والحبّ والرّحمة قبل أن يستشعرها رجالات قريشٍ، فكانت قِبلةَ نساء العالمين، وقُبلَةَ الأزواجِ والبنين؛ آوت ونصرتْ ودعمتْ، ها هي خديجةُ بنتُ خويلدٍ – رضي الله عنها – أول من نصرت الدّعوة وآزرتها، وقالت لحبيبها صلى الله عليه وسلّم – وهو يرتجفُ خوفاً مما رآهُ في الأُفق - : اللهُ يرعانا يا أبا القاسم؛ واللهِ لا يُخزيكَ الله أبداً! إنّكَ لَتَصِل الرّحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتَقري الضّيفَ، وتُعينُ على نوائب الحقّ.... كلماتٌ جمعت منطلقات الحضارة الإنسانية الأرقى والأبقى ...
لم ينسَ – عليه الصلاةُ والسلام – مواقف خديجة لبناء الحضارة الإسلامية؛ بل لم تنسَ أذنُه – أذُنُ الخيرِ – نبرات صوتها حتى بعد عِقدين من الزّمن؛ فها هي هالةُ بنت خويلد تستأذن بالدّخول على رسول الرحمة صلى الله عليه وسلّم في حضور أمّنا عائشة بنت أبي بكرٍ – رضي الله عنها – وحين وعَتْ أذنُه نبرةَ صوتها قال في ارتياعٍ: اللهمّ هالة! .... ثم ذكر أختها أمّ المؤمنين الأولى بقوله عليه السلام: واللهِ ما أبدَلني اللهُ خيراً منها، آمنتْ بي حينَ كفرَ النّاسُ، وصدّقتني إذ كذّبني النّاس، وواستني بمالِها إذ حرمَني النّاس..
وتأتي خولةُ بنت حكيمٍ السّلمية – لتُشاركَ في بناء بيت النّبوة واستمراريّة الدّعوة – فتقولُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأت على مُحيّاهُ آثار الهمّ والحزن لفَقْدِ خديجة رضي الله عنها: أفلا أَخطبُ عليك !
وبالفعل خطبت عليه قُرشيّتين عفيفتين بكراً وثيّباً، هما عائشة بنت أبي بكرٍ، وسَوْدة بنت زمعة العامرية القرشية التي بنى بها بمكة؛ لترعى بنيّاته صلى الله عليه وسلّم .
ولا تزال المكّيّة تؤدّي دورها بكلّ إيمانٍ وإيجابية في المجال العام لدعوة الإسلام الخالدة... ها هي أمّ رومان بنت عامر الكنانيّة تخطط وتسهر مع بنتيها عائشة وأسماء لإنجاح هجرة المصطفى عليه السلام مع ربّ الأسرة أبي بكرٍ الصّديق منذ أن سمِعنَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لصاحبه: قد أُذِنَ لي في الخروجِ والهجرة؛ فأمّ المؤمنين عائشةُ تُراقبُ الوضع داخلَ مكة – رغم حداثةِ سنّها - والثّانية تشقّ نطاقها لتوصل الطعام إلى أبيها وصاحبه صلى الله عليه وسلّم أقصى جبال جنوب مكة، ورجالات قريشٍ مضطربين في البحث عنهما .
ضحّت هند بنت أبي أميّة [ أمّ سلمة ] القرشية المخزوميّة مرّتين لأجل ربّها؛ مرّةً عندما ودّعت مكة وهاجرت مع زوجها عبدالله بن عبد الأسد المخزومي مع العشرة الأولين إلى الحبشة، والثانية بابنها سلمة وبزوجها عند هجرتها من مكة إلى المدينة بعد بيعة العقبة الثانية للعمل لهذا الدّين العظيم، فقد رأت يد فلذةِ كبدها سلمة تُخلع بين رهط أبيه ورهط أمّه يتنازعونهُ ...
أمّا شريفة مكة زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية فتقول عائشة رضي الله عنها: لم أر امرأةً قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرّحم، وأعظم صدقةً، وأشدُّ ابتذالاً لنفسها في العمل الذي يُتصدّق بهِ ويُتقرّبُ به إلى الله عزّ وجلّ .
ولن ينس تاريخ المرأة المكّية [ أمّ حبيبة] ابنة زعيم مكة رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أميّة رضي الله عنهما، التي أسلمت مع زوجها عبيدالله بن جحش وهاجرت من مكة بدينها معه إلى الحبشة وهي مُثقلةٌ بكيد كفّار قريش وبحملها بابنتها حبيبة؛ فما إن وصلت إلى الحبشة حتى ارتدّ زوجها واعتنق النّصرانية، فعانت الأمرّين في قصّة أشبه بالخيال...!
وسيبقى تاريخ المرأة المكّيّة يذكر ميمونة بنت الحارث، وسلمى بنت عُميس، وبنات المصطفى عليه السلام الشّقيقات الأربع زينب وفاطمة ورقية وأم كلثوم، ومائتي مكيّة قرشيّة لو تتبّعناهنّ لطال بنا المقام.
ظهر محمد – عليه السلام – فصانَ حياة المرأةَ وهي طفلة، وأوجب كرامتها وهي أختٌ، وأحسنَ استقبالها وهي زوجة، ورفع منزلتها وهي أُمٌّ، ثم استوصى بهنّ خيراً من ولادَتِهِنَّ إلى أمومتهنَّ؛ فجعل طفولتها حجاباً من النّار، وجعل الجنّة تحت قدميها أُمّاً، ثم لا تَسلْ بعد ذلك كيف وصلها بالحياة العامّة !
المسلمةُ عند نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام تطرق المساجدَ للصلاة خلف الرّجال، وتتطوّف بالبيت، وتجاهدُ بالحجِّ، وتشارك الرّجل بخدمتِهِ وتطبيبِهِ والدّفاع عنه في الجهاد، فقد حملت أمّ سُليم السّيف في أُحد، وصرعت صفيةُ بنت حُييّ اليهود في الأحزاب، وتولتّ الشّفاء بنت عبدالله أمر سوق المدينةِ وتجارتها، وفوق كلّ هذا ومعه أدارت شؤون بيتها وأحوال أسرتها ورعاية أولادها، وأحسنت التّبعّل لزوجها .
وُجِدتْ هاجرُ – اليوم – متكاتفةً مع أخواتها من مؤسسات مكة ونسائها لزيادة الوعي بجلال مكة وقداستها، وإعادة كتابة تاريخ المرأة المكّية، ثم بالعمل لمكة وساكنيها وزائريها، ولتفجير طاقات نسائها حتى لا يُوجد بيتٌ في مكة فيه طاقةٌ أُنثويّةٌ معطّلة أبداً بمشيئة الله تعالى – وفق ما طالبَنا الإسلام به لإقامة مجتمعٍ مكّيٍّ تهوِي إليه أفئدةٌ من النّاس مشتاقة ومنقادةً لأمر الرّب جلّ وعلا، وأملنا في ربّنا تعالى أن يكنّ نساء مكة محرّراتٍ لعبادة الله تعالى وحده ، ثمّ لخدمة بيته المقدّس وحرمِهِ الطّاهر مشاركة لأشقّائهنّ الرّجال، فالنّساء شقائق الرّجال، في حياةٍ مكّيّةٍ شريفةٍ يعمل فيها الجنسان وحاديهما قول الحقّ تباركَ وتعالى: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ }